جواهر الرشيد
تزخرُ قلوبُ الشّعراءِ بالرّقةِ والإحساس، وتنبضُ بالرّحمةِ والوفاءِ، وتمتلِئُ بالحبِّ والحنان. ترى السَّعادةَ وهَمًا من خيالٍ فتخلو حاملةً الهمومَ بحَيرةٍ تنادمُ السَّحر، وتحِنُّ لضوءِ القمر. تلازمُ حبَّهم نزعةٌ تشاؤميَّةٌ ناتجةٌ من مشاهدِ تَرْحِ الحياةِ.
شهدَت دواوينُ الشِّعرِ المعاصرِ من الرُّومنطيقيّين إثراءً وجدانيًّا نابعًا من التّأمّلاتِ الكونيّةِ التي ساهمَت في تكوينِها العواملُ النَّفسيَّةُ والاجتماعيَّةُ والسِّياسيَّةُ حتّى تجسَّدَت تلك العواطفُ في صورٍ بيانيَّةٍ جماليَّةٍ عن طريقِ توظيفِ الطَّبيعةِ في نَظْمٍ لُغويٍّ مكتمِلٍ بالقصيد.
شاعرُ الشَّبابِ وصاحبُ قيثارة الأمل، شاعرٌ سخيٌّ في مشاعرهِ، عظيمٌ في أدبِهِ وعلمِه، شاعرٌ تنعَّمَ في منزلٍ يحفُّه العَزفُ والغِناءُ والطَّرب. حفلَت حياتُه بالفنِّ والفنَّانين. الشَّاعرُ المصريّ -أحمد رامي- الذي رادَ الشِّعرَ الغنائيّ واشتُهرَ به، عبّرَ عن أحاسيسِه بلغةٍ عربيّةٍ فصيحةٍ ونزلَ إلى اللغةِ العاميَّة؛ ليرفعَ العامَّةَ إلى أفكارِه وأحاسيسِه بمعانيه السَّاميةِ حاملًا رسالةً أدبيَّةً وقوميَّة، مالَ نحو الطَّبيعةِ مُصوِّرًا الحبَّ ومشاعرَ الألمِ والفراق بعاطفةٍ محترقةٍ تناجِي الوترَ، برعَ في جمالِ إيقاعِ اللَّفظةِ الشِّعريَّةِ المتفاعلةِ مع عاطفتِه المرهفةِ وموهبتِه الشَّاعريَّة.
ذاقَ اليُتمَ رغمَ عيشِ والدَيه، فبعدَ أن عادَ من طيشوز إلى مصرَ ليبدأَ مسيرتَه الدِّراسيَّة مع عمَّتِه، واصلَ أبوَيه أسفارَهما حتى التحقَ أبوه بالجيشِ وعادَت أمُّه إليه. عاشَ متلهّفًا للقاءِ أبيه فاقدًا شعورَ الأمنِ والطَّمأنينةِ، حتى رثَاه بعد أن فقدَه جسدًا وروحًا، فالشِّعرُ عزاؤه وفِناءُ أحزانِه، رثاه مرثيَّةً مليئةً بالتَّحسُّرِ والشَّجن، يقول:
نشأتُ في يُتمٍ ولي والدٌ
فما اكتفى الدَّهرُ بهذا العذاب
وزادني أنْ غالَه فانطوى
بموتِه الصَّفوُ وعمَّ المصاب
لاذَ بوحدتِه مع أمواجِ الحزنِ التي تعصفُها هبوبُ آلامِ الماضي وقسوتِه، فصاغَ من دمعِه ألفاظًا موزونةً تُلحِّنُه شكواه حتى برعَ في نظْمِ ألمِه شعرًا عربيًّا بارعًا في ساحتِه الأدبيَّةِ والبلاغيَّةِ، جمعَ عن طريقِها قلبَ كلِّ مَن تألَّمَ وتجرَّعَ نظيرَ آلامِه، وشتَّتَ حيرةَ المتعاطفين فبكَوا لألمِه وقاسموه الحزنَ أضعافًا، يقولُ في قصيدةِ (الوحدة):
رقدَ السَّاهدون حولي وعيني
ليسَ تَقوى على انطباقِ الجفونِ
وفؤادي صاحٍ يرجّع بالخفقِ
نشيدَ الأسى ولحنَ الشُّجونِ
كانَ مولعًا بقراءةِ النُّسخةِ الفارسيَّةِ لـ«رباعيَّات الخيَّام» مترنمًا بترديدِ أبياتِها يُسَامرُها ليلَ نهار. ترجمَ الرُّباعيَّاتِ بعدَ أن وصلَه نعيُ شقيقِه الشَّابّ -محمود- مستمدًّا القوّةَ منها، فأخرجَ طبعةً عربيَّةً باعثًا فيها نفحاتِ الخيَّامِ إلى كلِّ عربيٍّ قضَتْ على روحِه أفكارُ الوجودِ وفلسفتِها. شكَى وبكَى لفقدانِ نورِ عينَيهِ وحبيبِ قلبِهِ، فرثاهُ في ديوانِه قائلًا:
أخي وهل غيرُ أخي بارقٌ
في ظلمةِ العَيشِ إذا ما اعتكر
وهل سواهُ سامعٌ أنّتِي
إذا دجا اللَّيلُ وطالَ السَّهر
ورَغمَ مرارةِ واقعِه حاولَ أنْ يُطوِّعَ نفسَه للظُّروفِ الملمَّةِ به فاستعذبَ الألمَ؛ لعلَّه يحملُ نفسَه الحزينةَ إلى جانبٍ مضيءٍ بالأملِ والتَّفاؤلِ، يقولُ في قصيدةٍ بعنوان (نعمة الألم):
بين الحقيقةِ والخيالِ مصارعٌ
أودَت بما في النَّفسِ من إقدامِ
لكنَّني عوَّدتُ نفسي أنْ ترى
أفياءَ هذا العيشِ ظِلَّ جَهامِ
وأخذتُ أُذني بالنَّواحِ فأصبحَت
تستعذبُ الأنَّاتِ في الأنغامِ
وغرستُ في قلبي الشُّجونَ فأثمرَت
وجَنيتُ منها نعمةَ الآلامِ
تجرَّعَ مرارةَ الفقدِ التي قصمَت ظهرَه وامتحنَت قلبَه، فلا عزاءَ لحزنِ أبٍ فقدَ ابنتَه ولا ضَمادَ لجُرحِ فقدِ البُنُوَّةِ، فقَدَ حُلمَه الصَّغيرَ الذي كانَ الأملَ لحياتِه، يقولُ في قصيدةِ (أحلام):
سمَّيتُها أحلامَ من طولِ ما
ناجيتُ في دنيايَ أحلامي
عشقتُها طيفًا رفيقَ الخُطى
يسبحُ في آفاقِ أوهامي
سمَّيتُها أحلامَ حتى أرى
أنّي أضمُّ اليوم أحلامي
إنْ نظرَت عيني إلى عينِها
غمرْتُ فيها كلَّ آلامي
سمَّيتُها أحلامَ يا ليتني
سمَّيتُ شيئًا غيرَ أحلامِ