خالد محمد الدوس
ولد العالم زيغمونت باومان في بولندا عام 1925 وانتقل إلى الاتحاد السوفيتي عند بداية الحرب العالمية الثانية وعمره 14 عاما وعندما بلغ الثامنة عشرة عاما كان يحارب في صفوف الفرقة البولندية في الجيش الأحمر ضد جيش هتلر وبعد عودته إلى بولندا عقب الحرب عمل ضابطا سياسيا في الجيش البولندي خلال الاربعينيات وأوائل الخمسينيات وخلال عمله في فيلق الأمن الداخلي درس (باومان) بداية علم الاجتماع في أكاديمية وارسو للعلوم الاجتماعية ثم ترك علم الاجتماع ودرس الفلسفة في «جامعة وارسو» بعد أن ألغي علم الاجتماع بشكل مؤقت من المناهج الدراسية البولندية باعتبارها حقلاً معرفياً برجوازياً ومن ضمن أساتذته في جامعة وارسو (ستينسلو أوسوسكي وجوليان هوتشفيلد) وهما من علماء الاجتماع البولنديين البارزين في فيلق الأمن القومي، ثم أكمل تعليمه العالي في جامعة وارسو ونال درجة الماجستير عام 1954 وأصبح محاضرا في الجامعة واستمر بها حتى عام 1968 وانتقل إلى بريطانيا وعمل في جامعة لندن، ثم عمل أستاذا لعلم الاجتماع في جامعة ليدز ثم رئيسا للقسم.
ونشر خمسة كتب خلال السبعينيات وأربعة كتب خلال الثمانينيات ونشر الكثير جدا منها إثر تقاعده رسميا عام 1990 ما يقارب السبعة والخمسين كتابا والتي ترجمت معظمها إلى عديد من اللغات بما في ذلك اللغة العربية حيث شكلت إسهاماته العلمية حاجة ملحة في فهم الواقع الاجتماعي الذي يشهده العالم المعاصر من تحولات وتغيرات اجتماعية ما يميز «الفكر الباوماني» أنه امتهن علم الاجتماع التخيلي الذي يقوم على المزج بين علم الاجتماع والأدب الشعري والفلسفات النظرية في مختلف أعماله.
ويعد العالم «زيغمونت باومان» من بين علماء الاجتماع الذين لهم معرفة ودراية كبيرة بإشكالية الحداثة وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية وقد كان مهتما بهذا الاتجاه يستحضر بالضرورة الأفكار والتحليلات النظرية التي عمل عليها إلى جانب العالم الاجتماعي «أنتوني غيدنز» والعالم «آلان تورين».
فالحداثة وما بعد الحداثة هو أهم مشروع بدأه باومان في مؤلفاته منذ أواخر الثمانينيات في القرن العشرين وقد وضع تصوراً شاملاً للحداثة وما بعد الحداثة وتوج مشروعه بكتاب يحمل عنوان: (الحداثة السائلة) وقد حاول من خلال مؤلفه أن يوضح الحالة الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها المجتمعات الإنسانية عبر مراحل الحداثة وبين الدور الذي لعبته العولمة باعتبارها أحد تجليات الحداثة والتي تتميز بسرعة مطردة وعدم اليقين وعدم الأمن لكل الأشكال الاجتماعية.
فالحداثة هي عملية تفكيك البنيات الاجتماعية واستبدالها ببنيات جديدة لغتها تحرير السوق ونشر الأفكار الليبرالية وتفريد الإنسان، فالنقطة الأساسية أنه في عالم الحداثة الدافقة التفكير في التغير لم يعد اختيارا.
ولذا ركزت مجهوداته طوال ما يزيد على ربع قرن على توقعات تحسن الحداثة فقام بتطوير استراتيجية لجعل الحداثة ديموقراطية واشتراكية وهو جعلها أكثر حرية وأكثر مساواة وأكثر عدالة وكانت هذه الاستراتيجية التي اعتمدت على ماركس وهابرماس وغرامسي قد خولت المثقفين وبخاصة علماء الاجتماع دورا رئيسا وكانت مهمتهم تشجيع حوار مفتوح وقيم بين المجموعات الاشتراكية بما يؤدي إلى تحديد المصالح المشتركة والحوار هو أحد جوانب العوامل الأخلاقية المؤدية إلى البناء القيمي الرشيد.
وتقديراً لإسهاماته العلمية وأبحاثه الثرية نال العالم زيمغونت باومان عديداً من الجوائز ومنها جائزة أيرة أستورياس للإنسانيات وجائزة فيجن 97، وجائزة تيودور أدورنو، والميدالية الذهبية للاستحقاق في مجال الثقافة.
توفي العالم الراحل زيمغونت باومان في 9 يناير عام 2017 في مدينة ليدز البريطانية عن عمر يناهز 90 عاما بعد أن ترك منجزات علمية أثرت مكتبة علم الاجتماع وتراثها الأصيل. كواحد من العلماء البارعين في التحليل السوسيولوجي من خلال قدرته على ربطه النظرية في علم الاجتماع بنظيراتها في الأدب والفلسفة والتاريخ وبالتالي تفسير تلك التوليفة بما يحدث في العالم حولنا.