عبدالله العولقي
أهدى لي الباحث الأستاذ عيسى بن سليمان الفيفي مؤلفه الأخير الموسوم بـ (حكاية قلم وتاريخ مكتبة) وعنوان فرعي (جولة وحديث في مكتبة محمد بن أحمد معبر)، ولأنني أحد رواد هذه المكتبة العريقة بخميس مشيط فقد تناولت الكتاب بشيء من الشغف والاهتمام، فتعد الجاحظية كما يحلو للأستاذ ابن معبر تسمية صالونه الثقافي الذي يعقده في المكتبة أحد أهم برامجي الثقافية خلال الأسبوع.
بدأ الباحث عيسى الفيفي كتابه بالتعريف بالسيرة الذاتية، ولا شك أن الأستاذ ابن معبر أحد أهم الأعلام والرموز الثقافية في منطقة عسير، وقد صدرت له مجموعة كبيرة من المؤلفات التي تناولت عدة مجالات مختلفة من التاريخ واللغة والأدب والثقافة تعكس مدى موسوعية الباحث وتعدد مواهبه في المجالات المختلفة، ويكفيه أن مؤلفاته المطبوعة فقط قد تجاوزت المائة والخمسين كتاباً، صدرت عن أشهر دور النشر في لبنان والعراق ومصر وتونس والمملكة العربية السعودية، حيث يتميز الأستاذ بسمة الصبر والنفس الطويل، فبعض كتبه لا تزال حبيسة الأدراج ولم تر النور حتى الآن، لا يزال يرى أنها في حاجة إلى التنقيح والإضافة والتعديل، وقد ساعده في ذلك تفرغه الكامل لكتبه ومكتبته، فيقضي يومه بين صفحات الكتب قارئاً وباحثاً وناقداً ومؤلفاً، لا يمل من تقليب الأوراق ولا يكل من صرير الأقلام، فهذه النشوة العلمية التي يستمتع بها في نهاره وليله هي سر غزارة إنتاجه الثقافي، وقد كانت له تجربة علمية ثقافية مع النشر والتوزيع (دار جرش) التي أنشأها في مرحلة مبكرة من مسيرته الثقافية، حيث خسر مادياً وأفاد علمياً، لكنه تفرغ بعد هذه التجربة للتأليف والتصنيف وإنجاز مشاريعه الثقافية الرائدة المميزة، وقد ترك عناء الطباعة والتوزيع لدور النشر التي تتلهف لطباعة إصداراته المتنوعة.
تقع مكتبته العامرة في مدينة خميس مشيط بمنطقة عسير في دور أرضي كامل بمساحة 120 متراً مربعاً، وتتضمن كتباً يتجاوز عددها 25 ألف عنوان، كما تحتوي على دوريات تجاوزت 16 ألف دورية، وتتزيّن مقدمتها بجلسة ثقافية يطلق عليها لقب (الجاحظية)، يتنافس على ارتيادها نخبة من المثقفين والكتاب والأدباء والشعراء في منطقة عسير، وقد وثق الباحث عيسى الفيفي العديد من صور هؤلاء النخبة في ملحق الكتاب، وقد لفت انتباهي وجود العديد من الصخور والأحجار التي تتميز بها المنطقة، كما تتزيّن جدران المكتبة ببعض الصور التاريخية النادرة للمنطقة.
ما لفت انتباهي حول فكر الأستاذ ابن معبر المكتبي أنه لم يحرص أبداً على اقتناء المخطوطات التاريخية ولم يحرص أيضاً على امتلاك الوثائق العامة أو الخاصة، وقد رأيت في ذلك ميزة رائعة حتى لا يشتت ذهنه عن مشروعه الثقافي، وعندما يوجه له الباحثون السؤال حول ذلك، كان يجيب أن تلك المخطوطات تحتاج إلى اعتناء خاص، وقد كفي هذا العبء بوجود العديد من المراكز التاريخية والمكتبات حول العالم التي تحتفظ بآلاف المخطوطات وفق الطرق العلمية السليمة.
اهتم الأستاذ ابن معبر كثيراً بمنطقة عسير لا سيما ما يتعلق باللغة ومفرداتها الدارجة في المنطقة، وبتاريخها وإرثها الثقافي والاجتماعي، بالإضافة إلى التراجم المفردة عن أشهر الشخصيات التي تركت بصمة جلية في تاريخ المنطقة، وحول اهتمامه بالمنطقة فلديه مجموعة نوعية من المصنفات الرائعة التي اتسمت بالعمق والتميز والأصالة، كمعجم الملابس والزينة في منطقة عسير والذي طبع في ثلاث مجلدات، وكتاب معجم العمران، وتعاشيب اللغة (بحث تاريخي في لهجات المنطقة)، ولغة الألوان في منطقة عسير، وكتاب معجم الأمثال الدارجة في المنطقة، وفي التاريخ استأثرت مدينة جرش التاريخية بمجموعة من الكتب التي تناولها، لا سيما أنها المدينة التي ينتمي إليها في محافظة أحد رفيدة، فقد وصل عدد الكتب التي تناولت مواضيع (جرش) إلى أكثر من عشرة كتب تحدثت عن كل ما يتعلق بتاريخية مدينة جرش سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً.
يهتم الأستاذ ابن معبر كثيراً في مجال الأمثال العربية، وقد صدرت له مجموعة ثرية من الأبحاث التي تناولت هذا المعنى، ككتاب الأمثال للجاحظ، وأمثال أكثم بن صيفي التميمي، والأمثال العامية في منطقة عسير، والعين والبصر في الأمثال العربية، والحمار في الأمثال العربية، وأمثال أدب الكاتب، وأمثال المولدين، والجوهرة في الأمثال لإبن عبد ربه الأندلسي، والحكم والأمثال لإبن الأثير الحنبلي، ويظهر في سياق هذه الكتب إبداع الباحث في الرصد والتحليل والتعليق.
أيضاً، للأستاذ ابن معبر اهتمام بالغ باللغة العربية وما يتعلق بفنونها المختلفة، وقد لفت اهتمامي كتاباً أهداني إليه سابقاً بعنوان (أيش وأخواتها)، حيث يتخذ هذا الكتاب من منطقة عسير ميدانًا جغرافياً، ويجعل من علمي النحو والصرف طريقين يسير فيهما في سبيل الكشف عن كلمة (أيش) ومعانيها واستخدا ماتها في منطقة عسير، ويبدو أن الشرارة الأولى التي لفتت انتباهه إلى موضوع الكتاب هي تأمله في كلمة (أيش) وكثرة استخداماتها في البلاد العربية، فتوقف عندها منذ 1413هـ ثم عاد إليها مجدداً سنة 1433هـ - كما ذكر في مقدمة الكتاب - مدافعًا عن فصاحة الكلمة في وجه الذين يصرون على عاميتها، ولا شك في أنَّ دفاعه المستميت عن هذه الكلمة كان الحافز الأول على إعداده هذا الكتاب الرائع (أيش وأخواتها).
وفي نهاية المقال، أود أن أشير إلى أن كتاب الباحث الأستاذ عيسى بن سليمان الفيفي (حكاية قلم وتاريخ مكتبة) ليس الوحيد الذي تناول سيرة الأستاذ ابن معبر، فهناك دراسة تحليلية رائعة اطلعت عليها كتبها الأستاذ الناقد الدكتور أيمن عبدالعظيم رحيم بعنوان (البحث اللغوي عند الكاتب محمد أحمد بن معبر)، وهو مشروع كتاب سيرى النور قريباً كما أخبرني المؤلف، وللحق فالأستاذ محمد أحمد ابن معبر يستحق هذا الإلتفات الثقافي من الباحثين والكتاب نظير ما قدمه للمكتبة العربية من إصدارات تاريخية وأدبية ولغوية وثقافية تستحق الإشادة.