د. جاسر الحربش
قصة قصيرة من الأدب الروسي قرأتها في شبابي المبكر ثم طواها النسيان مع اسم الكاتب. أعادتها إلى الذاكرة أحداث العربدة والمجازر في غزة والداخل الفلسطيني ولبنان.
تلك القصة الروسية القصيرة تختزل الرأي الشائع في روسيا آنذاك عن شخصية المرابي الجشع من أصحاب هوية استعلائية انغلاقية معروفة لا حاجة لتحديدها بالاسم، وعن أحد أساليبها في اخضاع المختلفين عنها بسلطة المال.
تحكي القصة عن اقطاعي أراض روسي استدان مبلغاً كبيراً من أحد المرابين الكبار ولم يستطع الوفاء بدينه في يوم الاستحقاق. حين طلب المرابي استيفاء الدين عرض عليه الاقطاعي استيفاءه من أراضيه بقدر ما يمشيه المرابي من المسافة راجلاً من طلوع الشمس بشرط أن يعود قبل غروب الشمس إلى نقطة الانطلاق المحددة في صباح ذلك اليوم. قبل المرابي شرط الاستيفاء وانطلق مهرولاً لا يتوقف ولا يتلفت حتى انتصف النهار وارتفعت حرارة الشمس. كان له أن يعود إلى نقطة الانطلاق قبل الغروب لكن غريزة الطمع غلبته وسولت له الاستزادة من الأرض بظنه أن الوقت فيه متسع للعودة. مع ميول الشمس عن وسط السماء نحو الغروب بدأ رحلة العودة لكن الاجهاد والحرارة أثقلت خطاه. ما لبثت الشمس أن غابت قبل أن يصل إلى نقطة الانطلاق وقد تقطعت أنفاسه. كان يشاهد عن بعد في ضوء الغسق المتبقي الاقطاعي المدين وكأن على وجهه ابتسامة انتصار عريضة. في النهاية خارت قوى المرابي الجشع وسقط ميتاً في مكانه. (انتهت القصة).
العبرة الأولى من القصة: قد تشبه المنطقة العربية الاقطاعي المدين ويشبه المرابي غازياً عنصرياً مغروراً أسكرته انتصاراته السهلة، فسولت له النفس التوسع في الأراضي الشاسعة في جنوبه وشماله وشرقه وغربه فأوغل في العربدة والقتل والتوسع.
العبرة الثانية: تساؤل عن كيف سيتصرف أصحاب الأرض وهل سيراهنون على غروب الشمس؟. المرابي يعتقد ولا يخفي ذلك أن له ديناً تاريخياً عند ملاك هذه الأراضي لابد أن يستوفيه، وأن ما هو فيه هي الحقبة الزمنية المناسبة للاستيفاء ولن تتكرر.
أصحاب الأرض منشغلون بهمومهم المعيشية والأمنية الخاصة، علاوة على أنهم لا يصنعون سلاحهم الحديث بأنفسهم والمرابي متفوق عليهم بالعلم والتقنية وفي التعامل مع السموم الإعلامية، ومعه المال والكنيسة التبشيرية وأهم من ذلك معه الحكومة العميقة في الدولة المتحكمة عسكرياً وعلمياً وتقنياً في العالم.
واقع الحال يقول إن الحقائق على الأرض لم تعد تتحمل الرهان على غروب الشمس، فأصحاب الأرض ليسوا مدينين للمرابي، وهو مجرد إفراز استعماري للحضارة الغربية المتغلبة حتى الآن.