عبدالرحمن الحبيب
يعد الإنترنت أعظم أدوات القوى الناعمة، حيث الصين تتوجه لمنافسة النفوذ الأمريكي، فلديها العدد الأكبر من المشاركين بالإنترنت، وأصبحت أضخم سوق إنترنت بالعالم بعدة مقاييس، باستثناء الإنفاق فهي بعد أمريكا (تقرير مجموعة بوسطن الاستشارية)؛ وتخطط الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، والاستحواذ على دور أكبر في إدارة الإنترنت وتشكيل المؤسسات والمعايير والقواعد الدولية السيبرانية.. وفي اجتماع قمة الذكاء الاصطناعي قبل عامين، قال إريك شميدت، الرئيس السابق لشركة غوغل، عن الصينيين: «بحلول عام 2020 سيلحقون بنا.. بحلول عام 2025 سيكونون أفضل منا.. وبحلول عام 2030 سيسيطرون على صناعات الذكاء الاصطناعي».
يقول البروفيسور جوزف ناي، القوة الناعمة هي» القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال».
القيادات في أمريكا والصين وروسيا، تعلن باستمرار ضرورة تعزيز القوى الناعمة لديها ومزيد من الإنفاق عليها، وتشتد المنافسة بينها في ذلك، لكن تأثير القوى الناعمة تراجع كثيراً لصالح القوى الصلبة في السنوات الأخيرة، ولا يبدو أن ذلك سيتغير في المدى المنظور. ربما تلعب القوى الناعمة دوراً أكبر في المستقبل إذا تجنبت الدول الكبرى الانزلاق في فخ ثوسيديديس، الفيلسوف اليوناني القديم الذي حدد السبب وراء ذهاب إسبرطة (أمريكا هنا) إلى الحرب مع أثينا (الصين) التي كانت تصعد وتنمو بقوة، بسبب خوف الأولى على بقائها، بحسب تحذير غراهام أليسون من جامعة هارفارد..
«استثمر في القوة الناعمة، فعندما تكون جذاباً، فإنك تستطيع التوفير الاقتصادي عبر العصا والجزرة» حسب البروفسيور ناي (سبتمبر 2024) الذي صاغ مفهوم «القوة الناعمة» وخصص له كتاباً عام 1990 خلال أجواء انهيار الاتحاد السوفييتي دون حرب، ونهاية الحرب الباردة بانتصار أمريكي مريح وناعم؛ ثم طوَّره عام 2004؛ ذاكراً أنه عِوضاً عن استخدام قوة الإكراه العسكرية يمكن لأمريكا الاعتماد على القوة الناعمة لتعزيز موقعها القيادي بالعالم عبر ثلاثة مجالات: الأولى قيمها الثقافية، حين تكون جذابة للآخرين، سواء ثقافة عليا نخبوية (العلوم، الآداب، الجامعات والابتعاث، المفكرون والمثقفون..)، أو ثقافة شعبية (أفلام، رياضة، سياحة، غناء..). والثانية قيمها السياسية عندما يُطمح إليها في الداخل والخارج؛ وأخيراً سياساتها الخارجية عندما يرى الآخرون أنها شرعية ولها سلطة معنوية.
في عام 2012 أوضح ناي أنه مع القوة الناعمة «أفضل الدعايات ليست دعاية»، فبدلاً من المباشرة الفجَّة يمكن تضمين أفكار وقيم نموذج الدولة العظمى، يقول ناي: «إذا استطاعت دولة ما أن تجعل قوتها تبدو مشروعة بنظر الآخرين، فإنها ستواجه مقاومة أقل لرغباتها.. وإذا كانت ثقافتها وأيديولوجيتها جذابة، فالآخرون سيتبعونها عن طيب خاطر.. وأساس القوة الناعمة للولايات المتحدة هي السياسات الديمقراطية الليبرالية، واقتصاديات السوق الحرة، والقيم الأساسية مثل حقوق الإنسان..»
على الخلاف من ذلك، يقول البروفيسور إيرك إكس لي (جامعة شنغهاي): «بدا الأمر كما لو أن القرن الحادي والعشرين سينتمي إلى الولايات المتحدة، والغرب، وإمبراطوريتهم العالمية الناعمة. لكن الأمر لم يكن كذلك»؛ لقد حدثت أخطاء فادحة.. فالثورة الاقتصادية النيوليبرالية لم تجلب القوة والرخاء والحكم الرشيد، بل أدت كما يقول عالم الاجتماع الألماني فولفجانج ستريك إلى «تزايد الديون وتزايد عدم المساواة والنمو غير المستقر.. إلى أزمة الحكم السياسي-الاقتصادي»؛ وظهرت أزمات داخلية أدت إلى صعود أغلبية حاكمة مناهضة لليبرالية في دولها: النمسا، التشيك، المجر، إيطاليا، بولندا، وحتى الولايات المتحدة نفسها.. أضف إلى ذلك أن أطروحة «ناي» أغفلت النموذج الصيني الذي أظهر نجاحاً باهراً متحدياً النموذج الغربي.. وسبق أن تحدث الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني هو جينتاو عام 2007 أن الصين بحاجة إلى زيادة قوتها الناعمة.
تمتلك الدول العظمى صورة متخيلة عادة ما تكون مبالغ في جبروتها بالقوة الصلبة (عسكرية، اقتصادية) أو عظمتها بالقوة الناعمة (اجتماعية، ثقافية، فنية..)، لكنها تتكشف عندما تواجه أزمة داخلية.. وقد تعرضت صورة أمريكا للاعتلال خاصة بعد اقتحام الكونجرس ليلة التصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة، وطريقة تعاملها مع وباء كورونا حيث بلغت الوفيات فيها من أعلى المعدلات في العالم، فضلاً عن انسحابها من منظمات دولية والتي استهل بايدن ساعات رئاسته الأولى بالعودة إليها..
بعد اقتحام الكونجرس (2021) كتب المحلل السياسي جوناثان ماركوس «فقدت الولايات المتحدة كلاً من نفوذها وقوتها الناعمة على السواء»؛ فيما يرى الكاتب سام إدواردز (الإندبندنت) أنه سيكون لذلك عواقب وخيمة على الصورة الأمريكية في العالم، وسيجعل الهدف الرئيس للرئيس بايدن، إعادة تأسيس القيادة الأمريكية العالمية، أكثر صعوبة.
ولعل خطاب التنصيب لبايدن يكشف جزءاً من الأزمة، فمنذ عهد أبراهام لنكولن، تضمنت خطابات تنصيب الرئاسة الأمريكية مناشدات للوحدة، ولكن نادراً ما كانت الوحدة منذ ذلك الحين موضوعاً مركزيًا أو متكررًا كثيرًا كما كانت في خطاب جو بايدن، ونادراً ما شعرت الديمقراطية الأمريكية بهشاشة مثل ذلك اليوم؛ حسبما ذكرت صحيفة الفاينانشال تايمز.
كما أتى الانسحاب المهين للقوات المسلحة الأمريكية من أفغانستان في 31 أغسطس 2021، وحالياً في ظل الأجواء الانتخابية المحتقنة في أمريكا وحالة الاستقطاب السياسي الحاد في المجتمع الأمريكي، فضلاً عما تعرض له ترامب الرئيس الأمريكي السابق من محاولتي اغتيال، كلها تصب في زعزعة القوة الأمريكية الناعمة والصلبة على حد سواء.