م. بدر بن ناصر الحمدان
قدم «راي أولدينبرغ» مفهوم المكان الثالث في بداية التسعينيات كمحيط اجتماعي وثقافي مستقل عن الأماكن المعتادة مثل المنزل «المكان الأول»، ومكان العمل «المكان الثاني»، ووصفه بالمقصد الأكثر إثارة لمشاعر الإحساس بالمكان وإدراكه، والأنسب لتطوير الأعمال وتفعيل المشاركة العامة وممارسة أنشطة الحياة الموجهة للمجتمع المدني في الفضاءات العامة، سواء كانت مغلقة أو مفتوحة. عمليا، أعتقد أن (حديقة الفوطة) هي أول مكان ثالث عام ممنهج في العاصمة الرياض، إذ شكل حينها جزءا من مرحلة البناء الوظيفي للفراغات العمرانية المخططة، وأسهم في تشكيل الذاكرة المكانية لدى السكان كأحد أهم أماكن المصادفة التلقائية ومقصدا للباحثين عن مكان نابض بالحياة.
هذه الحديقة تمثل فراغا تراثيا إنسانيا حضريا فريدا عطفا على دوره الرئيس في التأثير في المجتمع المحيط منذ إنشائها عام 1956م على مساحة 40 ألف متر مربع في سهل زراعي منخفض في عهد الملك سعود، حيث كانت متاخمة آنذاك لعدد من قصور أنجال الملك عبدالعزيز وسط أحياء الظهيرة والعطايف وحوطة خالد وما جاورها.
حديقة الفوطة بإرثها التاريخي والحضري تبرهن بشكل قاطع أن قيمة (الفراغ العمراني) تتفوق على قيمة (المبنى) متى ما تم توظيفه من أجل حياة الناس، عطفا على حجم الأفراد الذين ترددوا عليه أو عاشوا أوقاتهم فيه وكان جزءا من حياتهم أثر فيهم وتأثروا به مقارنة بالمبنى الذي عادة ما يوجه لشريحة محدودة من الناس.
أعتقد أن الفراغات العمرانية التاريخية حرية بإعادة الاعتبار خاصة تلك التي ظهرت في أواسط المدن، ومنحها المقعد الأول بين سلسلة المباني التي لطالما سيطرت على المشهد الحضري، فقط لكونها العنصر البصري الأكثر وضوحا في شكل المدينة وتركيبتها العمرانية.
ذاكرة الفوطة كفراغ عمراني مبني حبلى بالكثير من المشاهدات التي ما زال أصحابها على قيد الحياة، وهي المكان المعاش حتى الآن، ثمة حكايات لم ترو بعد.