د.عبدالله بن موسى الطاير
أعاود مرة أخرى طرق ثلاثة كيانات رومانسية، وهي الأمة العربية، والأمة الإسلامية، والشرق الأوسط. ولنأخذ القضية في تسلسلها التاريخي؛ منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى سعى القوميون العرب لتوحيد «الأمة العربية» على أنقاض الإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية، مبررين لأنفسهم التدخل في شؤون الدول العربية المستقلة، فحمل جمال عبد الناصر لواء القومية العربية، وتحقيق الوحدة مع سوريا، والحملات التخريبية ضد ما أسماه الدول «الرجعية»، وتورط في اليمن، حتى كانت نكسة عام 1967م التي أرغمته على التخلي عن طموحاته، إلا أن طموحات سوريا الكبرى لدى الحكام السوريين، وخاصة حافظ الأسد، لم تتوقف إذ سعى لضم لبنان وفلسطين والأردن.
في نهاية المطاف صمدت الدولة الوطنية، وفشلت القومية العربية في تحقيق هدفها المتمثل في توحيد «الأمة» لأن هذه الأمة لم تكن موجودة في الواقع، بل كانت مجرد أداة سياسية استخدمها الحكام والأنظمة المتعاقبة في الشرق الأوسط لتحقيق طموحاتهم في السيطرة الإقليمية. القواسم المشتركة بين سكان الشرق الأوسط الناطقين بالعربية، مثل اللغة والدين، لم تكن كافية لخلق شعور حقيقي بالهوية العربية الجامعة، فالإسلام دين عالمي، واللغة العربية انتشرت بين شعوب غير عربية، مما قلل من ارتباطها بالهوية العربية حصريًا. ويشير بعض الباحثين إلى غياب دور التطور التاريخي الموحد في تكوين شعور قومي متجذر يمكن أن يشكل رافعة للفكرة.
ليس من باب التجني ولا الانتقاص القول إن الهاشميين كانت لهم طموحات إمبراطورية بغطاء قومي عربي، مستغلين الفرصة التاريخية لبناء إمبراطوريتهم على أنقاض العثمانية، وعملوا على ضم مجموعات عرقية ودينية متنوعة، متجاوزين اللغة والدين المشتركين، استمر هذا التوجه الوحدوي العربي في رومانسيته إلى عام 1990م حيث بررت بغداد ضم الكويت باعتباره تصحيحًا لخطأ تاريخي و«إعادة الفرع إلى الأصل».
يتحيز المفكرون العرب إلى شعوب الهلال الخصيب القديمة مثل الكنعانيين والعموريين وغيرهما، متجاهلين شعوب شبه الجزيرة العربية، ومتجاوزين حقائق تاريخية ناصعة وهي أن هذه الشعوب المتنوعة (عرب وكنعانيين وعموريين، لم يشكلوا كيانا سياسيا موحدا قط، وقصص الغساسنة والمناذرة تسوّد صفحات كتب التاريخ. ويحلو لمنظري القومية العربية مقارنة جمال عبدالناصر بمحمد علي باشا، مع أن الأخير لم يكن يتحدث العربية. ومن المتناقضات في سعي العرب لكيانهم المتخيل أن الفلسفة التي قامت عليها جامعة الدول العربية في الدفاع عن القضية الفلسطينية كما عبر عنها أول أمين عام لها اعتمدت على مناصرة التراث والحق العربي على حساب الحقوق الوطنية للعرب الفلسطينيين، مما جعل هذه القضية أداة سياسية لتحريك الشارع العربي وبناء المجهود العسكري للتعمية على غياب التنمية المحلية.
تقهقر دعوى القومية العربية بثبات الحكومات الوطنية الحديثة وبخاصة في دول الخليج، قاد إلى أسلمة الحلم العربي، فجاء الخميني مستندا على مجد المسلمين الماضي كمبرر لتوحيد المسلمين في أمة. ووفقاً لفهمه فإن دول الشرق الأوسط غير شرعية تمامًا، ودعا سكانها لإسقاط حكوماتهم التي - كما يقول - نصبها الغرب المستعمر، ممنيا أتباعه «بالأمة الإسلامية». وبما أن النظام في إيران يستند إلى ولاية الفقيه، فإنه كما يراه معتنقوه كيانا مقدسا وبمثابة «جوهر الأمة» مؤكداً على أن «الثورة الإيرانية ليست محلية، لأن الإسلام لا ينتمي إلى أي شعب معين... وسوف نصدر ثورتنا إلى جميع أنحاء العالم لأنها ثورة إسلامية»، وتضمنت ديباجة الدستور الإيراني أن الجيش الإيراني مناط به تطبيق الحاكمية الإلهية في جميع أنحاء العالم.
لم يكن المشروع الخميني أفضل حظاً من القومية العربية، فقد صدمت الدولة الإقليمية، رفض أغلب أهل السنة المشروع باعتباره اثني عشريا، لم يقنع عموم الشيعة فضلاً عن غيرهم من أهل السنة. وعلى العكس من قادة القومية العربية في مصر وسوريا وليبيا والعراق، التف نظام ولاية الفقيه على فشله بخلق أذرع ومليشيات مسلحة قوضت سيادة الدولة الوطنية الحديثة في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان، وصنع لهم ملهاة اسمها المقاومة كمرحلة انتقالية قبل معاودة السعي نحو حلم الأمة الإسلامية التي يريدون في إيران أن تشكل طهران مركزها.
لا يظن أحد أنني أقلل من مكانة العرب، أو أحط من قدر الأمة في الإسلام، وإنما أنبه إلى أن استخدامهما في السياق القومي العربي، والإسلام السياسي الشيعي والسني ليس سوى شعارات سياسية لتحقيق طموحات سياسية. قد يقول قائل بأنني أحرّم على العرب والمسلمين ما سبقتها إليه أمريكا حيث توحدت 50 دولة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا في الاتحاد الأوروبي. عياذاً بالله أن يكون هذا قصدي، وإنما هناك مبررات محلية منفعية توحدت عليها أمريكا، وليس محظ شعارات، كما أن أوروبا صنعت نموذجاً بإرادة الدول الوطنية وليس من خلال فرضه عليها. والنموذج الواعد للأطر الوحدوية الحديثة هو مجلس التعاون الذي تتوافر فيه مقومات حقيقية لصناعة تكتل بإرادة دول وطنية كاملة الاستقلال.