رقية نبيل عبيد
سلمى هي سليلة آخر أسرة حكمت في الإمارة العثمانية، ولدت عام 1911، طفلة بخصلات حمراء طويلة في لون احتضار الشمس، ترفل في فساتينها الحريرية الزرقاء بلون عينيها، تحفظ كل ردهات القصر وتصطدم دومًا بسيقان العبيد والخدم الذين لا ينتهون، وتهرع لأمها السلطانة خديجة وهي متكئة على فراشها الوثير والخادمة تصب القهوة السوداء لها، فتربت السلطانة بتراخ على الشعر الأحمر الغزير، طفلة لم تعرف لنفسها سوى عشق الحياة، وتأبى إلا أن تنهل من كأسها المترع حتى الثمالة الأخيرة، أينما حلتْ بحثتْ عنها، إن كان ذلك في القصور المترفة أم في شقة خربة في حي فقير من أحياء باريس ونواقيس الحرب الألمانية تدق وتبث الذعر في العاصمة الفرنسية!
تنتهي الدولة العثمانية ويغادر آخر خليفة متخفيًا قصره، تاركًا بقية العائلة لمصيرها المجهول، وبرغم أن تركيا بغضت المحتل الإنجليزي وجاهدت لتخرج من شرنقة عبوديته إلا أن الشعب لم يغفر للأسرة العريقة هذا الثراء، وأصر على طردهم من شرفاتهم المترفة وبساتينهم اليانعة الخضراء وأحلامهم العاجية وحياة المخمل التي ولدوا فيها وألفوها وكأنها حقيقة كحقيقة طلوع القمر كل ليلة من مهده.
حكاية سلمى تنقسم لأربعة أقسام، كل قسم يحمل اسم البلد الذي عاشت فيه إبان فترة قد تطول أو تقصر من حياتها، في البدء كانت استانة تركيا، ثم بيروت لبنان بلد المنفى، ثم الهند حيث وطن زوجها، وأخيرًا باريس حلمها ومعشوقتها وسعادتها التي دأبت تطاردها فلا تعثر عليها، هنا وأخيرًا كانت تنظرها، طفلتها، حبيبها، سعادتها، استقلاليتها، نضجها، وأخيرًا رفاتها، وهكذا كان الثرى الذي احتضن جسدها البالغ بالكاد تسعة وعشرين عامًا لهو ثرى فرنسيًا.
ما أذهلني في هذه السيرة هي التفاصيل التي راعت الكاتبة دقتها كل المراعاة، وإذا بك تجد نفسك حقيقة لا مجازًا قد عشت في أبهى القصور التركية، ثم غادرتها لتحل ضيفًا في أرقى حفلات بيروت التي كان لا يحضرها إلا علية القوم والتي عرفت فيها سلمى معنى شبابها المتوهج المتفتح وأول حب وأول صداقة، ثم الهند وما أدراك ما الهند وكيف أجادت الكاتبة وصف الملبس والقصور الهندية والتوابل والحرارة واللآلئ والفِيلة، ثم وحدة سلمى ونفورها من كل هذه العادات الشرقية المتأصلة، هي التي لطالما فخرت بشرقيتها وبأصلها الضارب في القدم، بيد أنها ما احتملت برودة زوجها الشاب الهندي حاكم إحدى ولايات الهند.
والأمر الذي أثار استغرابي هو كون الكاتبة تصف بطلتها بحيادية فهي كأنما تجتهد لتقربك منها، لتجعلك تفهم دوافعها واختياراتها التي اختارت أيًا كانت، والأسباب التي حدت بها لتقبل ذاك الطريق ورفض هذا، وكنت أتعجب لأن من عادة الكاتب أن يتبنى فكر بطله، من عادته أن يتلبسه أن يسكنه أن يلتحما روحًا واحدة وجسدًا واحدًا وفكرًا واحدًا، غير أني لما قرأت الخاتمة التي هي أيضًا وصف الكتاب ولا أدري أي مجرم فعل هذا لأن هذا الوصف يحرق الكتاب بأكمله، لكني لما قرأته فهمت وزال كل عجبي، فالكاتبة هي طفلة سلمى، الطفلة التي كبرت وأخذت تتبع بصبر وأناة قصة أمها التي وهبتها الحياة ثم اختفت، وهكذا فهي لم تكن تحاول إقناعي بل كانت ببساطة تقنع نفسها وتدافع عن أمها وتدرأ عنها الأصابع المتهمة وتنظر إليها بعين استرحام لا اتهام!
وكنت أتميز غيظًا وصفحات الكتاب التي تناهز الثمانمائة تكاد تنفذ بين يدي، فيما الأميرة لا تزال يافعة في مقتبل شبابها، كنت أقول كيف؟ ألن تهرم؟ ألن تبصر أحفادها يلهون أمامها وسط حقول الذرة؟ ألن تعود إلى الاستانة وتراقب طلوع الشمس فوق مآذنها وقبابها مجددًا وتلمح من بعيد القصور التي هُجرت أو سكنها قوم آخرون؟، لا فالجسد الضئيل، الجسد النحيل الذي هده السعي والتجوال والعوز الذي طال الجميع وقت الحرب، هذا الجسد هذه الروح الهفهافة الغضة الطرية لم تحتمل.
لكنها حتى في أحلك أوقات باريس ذاقت طعم السعادة وهي تحتضن طفلتها التي صارت كل بهجتها، كانت سعيدة حتى وهي تسير مسرعة حرة وسط الشوارع الباردة المقفرة تبحث عن منفذ لبيع الحليب أو كعك جاف، بأناقتها التي جهدت لتخفيها دون أن تفلح، فهي تمشي منذ صغرها كما يمشي الأمراء وتلتفت كما يلتفتون وترفع رأسها عاليًا دون أدنى جهد، وهكذا - ومع هذا الشعر الأحمر القصير الخلاب وهاتين العينين اللازورديتين - كان لابد للأنظار أن تلتفت إليها ولابد من المحتوم أن يقع ولابد للرحلة أن تنتهي.
هذا الكتاب، هذه السيرة، هذه الأميرة السلطانة زرعت في قلبي شيئاً راسخاً لا يتحرك، لا بل هو شيء مثمر كبذرة ألقتها الكاتبة بين سويداء الروح وتركتها هناك لتسقيها أنت بماء روحك، بكيت كثيرًا وأنا أقرأ، وتفهمت كثيرًا وغضبت كثيرًا وضحكت كثيرًا وأحببت كثيرًا كثيرًا، والأروع أني عشت بكل دقة باريس إبان الحرب العالمية الثانية وهي في مستهلها لا تزال، وعشت في قصور الراجا الهندي وبين نسائهم وحكاياتهم وصراعاتهم وحقولهم.
عشت كذلك في بيروت وإن لم أر الكثير من أهلها وما عرفت سوى الأماكن المحدودة التي زارتها سلمى، وتلصصت على أحاديث الأمراء وكبار القادة وسادة القوم وهم ينفثون دخان النارجيلة ويتهامسون في أمور غاية في السرية، لكن التاريخ بالطبع افتضحها اليوم واقتحم كل أسوارها، فكما قال جبران التاريخ لا يترك شيئًا في دفتر الأبدية.
أما ما أثار حزني - وفي الماضي إذا كنت أصغر قليلًا كان من شأنه أن يفزعني - هو كم أن الإنسان جهول عجول، كم يحسب بشبابه ونضرته وحداثة سنه أنه لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل، وأنه الفاتح القاهر الذي سيهد الحصون ويفتح للبشرية مغاليقها ويزرع في كل العقول نورا، ويُنبت في كل القلوب نوافذ وأبوابًا وطرقًا أخرى!
إنه الاستثناء الذي يشذ عن القاعدة، عن المألوف، عن كل أولئك الأنام الذين ينتابهم المرض والجوع والرغبة والظمأ، غير أنه مع مرور الزمن وإتيان الأيام على عمره تأكله وتُنقصه وتأخذ من صميم كينونته أشياء كما قد تمنحه أشياء، يفهم حينها كم أن الإنسان كائن بسيط وأن السعادة يلقاها مع مَن يحب وأن مجرد وجود إنسيّ واحد، روح واحدة، قلب واحد يبادله مودة حقيقية ومحبة صادقة لهو كافٍ لكي يحب الحياة ولا ينقم عليها شرورها وصعوبتها التي يلقاها.