علي الخزيم
زعموا قديماً أن لكل شاعر مُبدع مُجِيد قَريناً من الجِن يسانده بالقَرِيض أو يمنحه القصيدة كاملة، وأن هذا سر إبداعهم الشعري وتفوقهم على أقرانهم الشعراء بعصرهم وبأزمنة مختلفة، وقالوا: بأن الشاعر يُدرك أهمية وقيمة صَنيع الجِنّي وتوجيهه لحُسن السَّبك وسلاسة المعاني وجزالتها، وأن الجِنّي إنما اختاره دون غيره لما يتوخّاه لدى الشاعر من مَلَكات شعرية تساعده على تلقي الدعم وتقبله وفهمه ثم طرحه كنتاج فكري ثقافي شعري بين أطياف مجتمعه.
= هذا الزعم - آنف الذِّكر- يُقرأ بإطار الأساطير الشعبية المتداولة ولكل حقبة - كما يقال- أساطيرها وقَصَصها المُتخيّل لتكريس فكرة أو نشر معلومة يصعب على بعض شرائح المجتمع فهمها وتقبلها فتُدمَج المعلومة بطيّات الأسطورة أو القصة الخيالية ومع مرور الزمن تأخذها الأجيال كمعلومة واقعية مُسلَّم بها ومتعارف عليها، غير أن النَّابِهين وأصحاب النُّهَى والعقول النَّيِّرة لا تُسَلِّم بهذا الفهم السطحي لكل قصة تتداولها المجالس وتَسَالِي الرُّكبان بترحالهم وسفرهم.
= وتأتي الأسطورة ببعض تصنيفاتها كضرب من الأدب الرفيع بقصة تقليدية أو بصياغة ونَظم شِعري يُشوِّق على نشرها وتداولها بين الأجيال لتثبيت حقيقة (واقعة أو مزعومة) أو نظرة فلسفية مُتخيّلة من خلال فصول أحداث تسردها القصة والقصيدة المهتمة بمضامين الأسطورة، وكانت تلك الأساطير تتناول موضوعات متعددة الجوانب كثقافة مجتمعية لتتوارثها الأجيال المتعاقبة كملخص للثقافة السائدة بما فيها من الحكمة والفلسفة الجَدلية وبما لا يتعدى حدود الأساطير، وكان هذا غالب حال مجتمعات غير إسلامية.
= وكان الشعر الفن الأول لحُقَب ما قبل الإسلام - وهذا الوصف يروقني بدلاً من نعتهم بالجاهلية - وهذا فيما يبدو ما جعلهم يُحيطونه بنوع مِمَّا يسمَّى بالأساطير والحكايات عن قرناء الشعراء من الجن ممن يلقنونهم شعراً راقياً بليغاً يَبُزّون به الآخرين بالمنتديات الشعرية والأسواق الأدبية التنافسية كعكاظ وغيرها، وإن لم يكن للشاعر قرين حقيقي فإنه ربما ادّعَى ذلك ليُضفِي على نفسه وقصائده شيئاً من القبول والانتشار، وكانت أسماء القرناء لافتة وغريبة بمعانيها ومدلولاتها؛ وعلى سبيل المثال فالأعشى الكبير ميمون بن قيس يُقال إن له قريناً يُسمى (مسحل) وقد ذكره الأعشى بشعره فقال:
(وما كنت شاعرا ولكن حسبتني + إذا مسحل سدى لي القول أنطق).
= وأتساءل: هل يتمكّن أي جني من وادي عبقَر المنسوب إليه ولمن يسكنه من الجن نبوغ بعض الشعراء أو غيره من المواقع أن يصف الخيل العربية الأصيلة كما وصفها الشاعر الفذ امرؤ القيس وإن زعموا أن اسم شيطانه (لافظ بن لاحظ)، أو يصف النِّزال ولِزاز الفرسان وسط غبار الوغَى كعنترة العبسي الشاعر الفارس العربي الخارق شعراً وبطولة ووفاءً للأهل والديار؟ ولم أقرأ يوماً أن عنترة قد زعم أن له قريناً يعلمه الشعر؛ وبرأيي أنه هو من يُعلّم الجن الإقدام والطِّعان وبليغ الوصف والكلام! ومن نوادر عنترة التي لم يبلغها شاعر غيره ولو بدعم الجِن:
(فترى الذبابَ بها يغنِّي وحدَه
هزِجًا كفِعْلِ الشاربِ المترنّمِ
غرِدًا يَحُكُّ ذراعَه بذراعه
فِعْلَ المُكِبِّ على الزِّنادِ الأجْذَمِ).