د. علي القحيص
مدن عربية ضاربة أعماقها في التاريخ والعصور، حاضرة في الوجدان والذاكرة، لا يمكن أن يمحوها النسيان أو الطغيان أو البعد عن المكان والجغرافيا، مثل مدينة بيروت العربية عروس الشرق ورئة العالم العربي، ستبقى بيروت خالدة فينا في الحرب والسلم والسراء والضراء، لنا فيها ذكريات وولاء لثقافة المكان والتنوع والجمال والمرح، منذ أن كانت ملاذا للاجئين والنازحين والباحثين عن مأوى ومكان عامر آمن ومستقر للمبدعين والموهوبين، والهاربين من جور النظم الاستبدادية في البلدان العربية التي سبقتها بالدمار.
ماذا حل بك أيتها المدينة الجميلة الرائعة، حين كان الأدباء والمثقفون والإعلاميون والصحفيون والفنانون يلجأون إلى مقاهي بيروت الهادئة المريحة النظيفة، يكتبون ويقرأون ويرسمون في شارع الحمراء، وطير الوروار يحوم فوق أشجار الأرز الخضراء التي تفاخر التاريخ وتزهو، وتشدو عصافير أحراش لبنان مقامات وألحان تطرب لها الأسماع، وصوت فيروز يصدح بالجمال والمحبة والسلام:
(لبيروت من قلبي سلاماً لبيوت..
وقبلا للبحر والبيوت)..
ثم تقول:
(أحبك يا لبنان يا وطني بحبك..
بشمالك بجنوبك..
بسهلك بجبالك..
تسأل شوبني.. شو يلي مابني...
بحبك يا لبنان ..يا وطني بحبك..
إذا أنت تتركني يا أغلى الأحباب..
عندي بدى أبقى ويغيبوا الغياب..
أتعذب وأشقى يا محلا العذاب)..
ماذا حل بتلك المدينة الملهمة، التي كانت منارة للعلم والمعرفة والإبداع، قبل أن يحولها الطائفيون إلى رايات صفراء بلون الكراهية واستحضار أحقاد التاريخ المكذوب، وثكنات عسكرية يحتلها الغرباء! فيلبسونها أثواباً سوداء، ويلطمون وجهها المشرق بالخرافات والشعارات المقيتة!
تتحول الشوارع والطرقات فيها إلى دهاليز مظلمة تدخلها الأفاعي والصراصير والجرذان!
تأكل بعضها البعض، القوي يفترس الضعيف، ويختفي صوت وديع الصافي وهو يردد «آه..يا بلدي... يا قصة الجداول يا لون الفرح..
يا ملعب عصافير.. يا حكاية نواطير.. بلدي يا سنابل الخير وكروم العنب..
ودروب وحكايات وسطوحها مرآيات...»
غابت تلك الأغاني الرومانسية الوطنية واستبدلوها بأصوات المدافع ورائحة البارود، وتتلاشى مشاهد الأطفال يحملون كتب مدارسهم النظيفة، التي رسمت على حقائبهم صورة الأرز وعلم الدولة وخارطة لبنان، التي تشبه خارطة فلسطين، قبل أن يتشابه البلدان بالخراب والدمار والمعاناة والكوارث والمأساة والمحن، مما جعل اللون الأحمر في كلا البلدين، يشكل لون الدم العربي الواحد الذي هدر مجانا، من أجل مشاريع ما وراء حدود الوطن، إلا لأنه عربي غير طائفي يعيش فيه الجميع، ولكن الغرباء والدخلاء استقلوا هشاشة الوضع هناك، مستقلين حرية الرأي وإشاعة الديموقراطية والتسامح وتعدد الأحزاب والقوميات والأديان، ليجدوا ثغرة صغيرة ويدخلوا من بوابتها الضيقة على حين غرة، في غفلة الصراعات الاثنية وزعامات الطوائف وتقاسم الأدوار والمحاصصة، ليجدوا ضالتهم المشبوهة، ومن يشجعهم على السير في الظلام، ويدعمهم من الخارج، ويبنون عش الدبابير من الداخل تحت السراديب، ومنهم من يتوسعون بأفكارهم الخبيثة السامة، ويلغون هوية الدولة وهيبتها وسيادتها، ويسيطرون على العقول الضعيفة والجماعات المتلونة، ويكسبون بعض المرجفين بالمال والخوف والتهديد!
ولذلك غابت هيبة وقوة ونفوذ دولة القانون والنظام والمؤسسات، وأصبحت الميليشيات المسلحة صاحبة الأمر وصناعة القرار وبيدها قرار الحرب والسلم وتحييد دولة المؤسسات وتعطيل حركة الدولة لأغراض وأهواء حزبية لا تخدم أهل الوطن، والتسلط على رقاب الشعب المنهك، مما جعل المضطهدين منهم يرحبون بأي قوة تدخل عليهم، لتخلصهم من الأفعى التي دخلت بيوتهم بالقوة، ولا يستطيعون التخلص منها، وأصبحوا (كالمستجير من الرمضاء بالنار!)
وللأسف أصبح هذا الوضع يتكرر ويستنسخ في أكثر من بلد عربي، وهو ما حصل في (العراق وسوريا واليمن ولبنان)، وما زال الحبل على الجرار، في دول حائرة بين مشاريع إقليمية تهدد وجودها، دون وجود رؤية لمواجهة هذه الأزمات والكوارث المتكررة، التي تدفع ثمنها هذه الشعوب التي تحولت إلى مجاميع محبطة، غرباء في أوطانهم وديارهم، ما بين مشرد وجائع ولاجئ ونازح ومهجر، وهذا كله بسبب عدم تمسكهم بوحدتهم الوطنية وقياداتهم الدستورية الشرعية، ولحمة شعبهم وراية بلدهم الموحدة وقبول تعطيل هذه الدولة وتلك وارتهانها لمشاريع خارجية، وتجميد الدولة التي توفر لهم الحماية والأمن والأمان والاستقرار والحياة الكريمة وتحميهم من الميليشيات المسلحة الطائفية المتطرفة، التي (تطرفت) عنهم حين وقع الفأس بالرأس، لأنها لا تنتمي للوطن وولائها خارج الحدود، وليس لديها قوة ورسوخ في جذور الأرض لكي تدافع عنها!