أ.د.صالح معيض الغامدي
أكملت قراءة السيرة الذاتية التي كتبتها عالمة الاجتماع السعودية الدكتورة ثريا محمد السليمان التركي بعنوان «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا» ووجدتها سيرة ذاتية جميلة ومفيدة وماتعة، فيها قدر كبير من الصراحة والموضوعية والبوح. ولعلي أكتب عنها دراسة شاملة مستقبلاً. أما في هذا المقال فسأكتفي بالحديث عن بعد واحد من أبعاد سيرتها الثرية، وهو بعد العلاقة بين الشرق والغرب كما صورتها الكاتبة في سيرتها تنظيراً وتطبيقاً. فهذا الموضوع جاء عنواناً للفصل السابع من فصول سيرتها «الغرب والشرق يلتقيان: كلاوس وأنا». وكلاوس المذكور هنا هو أستاذ جامعي مرموق من أصول ألمانية، درس في جامعة بيركلي وانتقل للعمل بعد ذلك في جامعة هارفارد.. وقد كانت الدكتورة ثريا وهي تحضِّر درجة الدكتوراه في جامعة بيركلي معجبة بأبحاثه وأطروحاته ومناقشاته، ثم ما لبث هذا الإعجاب أن تحول إلى صداقة تطورت بدورها إلى حب، ولكن الدكتورة ثريا كانت في البداية مترددة في هذا الأمر، وبخاصة عندما قررت العودة إلى السعودية للعمل فيها بعد حصولها على درجة الدكتوراه. ولكنهما في عام 1976 قررا الزواج بعد أن أعلن كلاوس إسلامه، وخضعت هي لسلطان الحب، ومع ذلك فقد رفضت أسرة الدكتورة ثريا هذا الزواج الذي تم في لندن تماماً ولم يحضره أحد من أفراد أسرتها.
بيد أن هذا الزواج لم يدم طويلاً، فقد تعرض كلاوس الذي انضم هو وثريا للعمل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، لحادث سقوط من بلكونة إحدى الشقق أدى إلى وفاته. وهذا الحادث الأليم، بل قصة زواج الدكتورة ثريا كلها، تذكِّرنا بقصة زواج سالمة بنت سعيد التي مرت بتجربة مشابهة روتها في سيرتها الذاتية «مذكرات أميرة عربية» عندما تزوجت التاجر الألماني هاينريش رويته الذي سقط أثناء القفز من عربة الخيول ودهس ثم مات، مع بعض الفروق التفصيلية، ففي حالة سالمة نجد أنها هي التي تنصَّرت لكي تقترن بزوجها، أما في حالة ثريا فزوجها هو الذي اعتنق الإسلام، ومع ذلك فقد رُفض هذا الزواج من الأهل في كلتا الحالتين.
ومن المؤكد أن الكاتبة قد كانت على وعي تام عندما اختارت هذا العنوان لهذا الفصل بالمقولة المشهورة المنسوبة للشاعر الإنجليزي روديارد كيبلنج، «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا». وجاء موقف الدكتورة ثريا نقضاً واضحاً لفكرة استحالة التقاء الشرق بالغرب، فالشرق والغرب يمكن أن يلتقيا، ليس من خلال الصراع والحروب، بل من خلال الحب، كما يتجسد ذلك في زواج الدكتورة ثريا بكلاوس. لكن أمر هذا اللقاء لم يكن سهلاً على الطرفين فقد كان على كلاوس أن يغيِّر دينه ويعتنق الإسلام، وكان على الدكتورة ثريا أن تثور على العادات والتقاليد المجتمعية التي تجعل من زواج البنت من أجني أمراً غير محمود، وتتحدى إرادة أهلها كلهم وتتزوج بكلاوس. ورغم اقتناع الدكتورة ثريا بهذا الزواج إلا أنها لم تكن مرتاحة من مقاطعة أهلها لزواجها، فقد كانت تتمنى إلى آخر لحظة أن يشاركها أي فرد من أفراد أسرتها فرحها ليلة عرسها، ولكن دون جدوى «وطيلة السهرة كانت عيناي مصوبتين تجاه الباب، على أمل أن أجد إحداهما (أختيها) قد رقَّ قلبها وأتت للوقوف بجواري في يوم عرسي، لكن ذلك كان ضرباً من الخيال والتمني»!
والحقيقة أن ثنائية الشرق والغرب وما يندرج تحتها من ثنائيات أخرى حاضرة بقوة في هذه السيرة الذاتية ابتداء من العنوان وانتهاء بالشعور بازدواج الهوية عند الكاتبة. فعنوان السيرة في مكونه الرئيس « حياتي كما عشتها» يؤكد أن الكاتبة راضية بحياتها كما عاشتها في الشرق والغرب على حد سواء، ويبين استقلاليتها في اتخاذ قراراتها حول الطريقة التي تريد أن تعيش بها بعيداً عن أي ضغوط خارجية حتى وإن كانت من أهلها. أما العنوان الفرعي للسيرة «ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا» فليست قيمته مكانية، فقد زارت الكاتبة أماكن متفرقة في العالم العربي وخارجه وعاشت فيها غير كاليفورنيا، ولكن قيمته رمزية، فعنيزة تمثِّل الشرق وترمز له وكاليفورنيا تمثِّل الغرب وتزمز له.
ولكن هل كان اتخاذ القرار بالتعايش مع ثنائية الشرق والغرب أمراً سهلاً بالنسبة للكاتبة؟ لا، بطبيعة الحال. ومع ذلك فقد سعت الكاتبة جهدها للتوفيق بين ما هو شرقي وما هو غربي في حياتها، فالهوية الإنسانية بشكل عام وهويتها هي بشكل خاص هوية متطورة متغيرة وليست قارة ثابتة، وما هو ثابت في داخلها هو جذور الهوية ، كما كتبت في سيرتها ، وهذا التفريق الدقيق الذي تحدده الدكتورة ثريا، وهي عالمة اجتماع مرموقة، بين الهوية وجذور الهوية يخفف من وطأة هذه الثنائيات في حياتها ويجعلها قادرة على التعايش معها، تقول الدكتورة ثريا: «بالطبع هوية الفرد عرضة للتغيير، لكن جذور هوية الفرد التي تتأسس عند البلوغ ربما لا تكون عرضة للتغيير مهما تعرض الفرد لأزمة عاطفية كبيرة أو حتى عدم استقرار في طريقة تفكيره ونظرته للأمور»!