د.عبد العزيز سليمان العبودي
يقول سبحانه وتعالى {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحجر: 19) ويقول {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (مريم 40). هذه الأرض التي تعاقب عليها أجيال وسيأتي آخرون، تعطي الثمر والدواء، ويخرج من جوفها، مواد البناء، ومعاول الهدم، ويستخرج منها الطاقة المثمرة، والقنابل المدمرة، وسيستمر ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. تراها من الفضاء وقد غلب عليها اللون الأزرق، فأُطلق عليها مسمى الكوكب الأزرق. إشارةً إلى زرقة الماء، رمز الحياة والنماء، والذي يشكل أكثر من 70 % من مساحتها. يقول سبحانه وتعالى {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء:30). وقد تعاقب على الأرض الحضارات، ومشى على ترابها الأنبياء والرسل ، وتنافس على مساحاتها الأفراد والدول. يعمرها الإنسان بالزراعة والبناء والعلم، حيث يقول سبحانه {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود:61).
كلمة ثقافة مشتقة من الفعل «ثقف» الذي يعني «أصلح الأرض وزرعها». وبالإنجليزية، كلمه culture مشتقة من اللاتينة cultura ومعناها الزراعة، وكلمة agri لاتينية كذلك، وتعني الحقل. ومنها نشأت كلمة agriculture والتي تعني الزراعة. وهذا يعني الارتباط الكبير بين الزراعة والثقافة، ومن ثم الحضارة التي لا تنشأ إلا برباط وثيق بين الأرض والإنسان والثقافة. وتعتبر الأرض مصدرًا أساسيًا للطعام والماء والموارد المعدنية والطاقة. وكانت الزراعة ولا تزال، أهم مصادر الغذاء للبشر، ولا يمكن تخيل وجود حضارات بدونها. فالزراعة تلعب دورًا حاسمًا في بناء الحضارات وتنمية المجتمعات البشرية. وهي الأساس الذي تقوم عليه جميع الثقافات الأخرى، فأحد أهم احتياجات الإنسان هو إمداده بالغذاء والموارد اللازمة للبقاء. ولهذا السبب، يقول الفيلسوف اليوناني زينوفون: «الزراعة هي أم الثقافات»، الذي يرى أن الزراعة هي المحور الذي تعتمد عليه جميع الأنشطة البشرية الأخرى. فإذا كانت الأرض تزدهر بالزراعة، فإن بقية الثقافات والمجالات الأخرى ستزدهر أيضًا، وإذا أهملت الزراعة، فمصير تلك الأنشطة الذبول والانطفاء. ويتبين الاعتماد على الزراعة وتخزين الغذاء من خلال القصص التي وردت في القرآن الكريم، مثل قصة النبي يوسف عليه السلام، الذي وجه عزيز مصر لتخزين الغذاء خلال السنوات السمان، لمواجهة الجفاف والمجاعة في السنوات العجاف. هذا المبدأ لا يزال حيوياً اليوم، حيث يتم التأكيد على الاستدامة في استخدام الموارد الطبيعية وحماية البيئة للأجيال القادمة؛ وكما تقول الحكمة التي تنسب لزعيم الهنود الحمر (سياتل) «نحن لا نرث الأرض عن أسلافنا، بل نستعيرها من أولادنا».
كانت السعودية قبل توحيدها، في حالة اضطراب بسبب الحروب الداخلية والخارجية والسلب والنهب، وكان على السكان الاعتماد على مواردهم الذاتية، حيث تأمين الغذاء من أهم الأولويات. والزراعة المنزلية كانت جزءًا من أسلوب الحياة، وذلك عبر زراعة النخيل، واليقطين، والبصل، والطماطم والعنب وغيرها من النباتات الأخرى التي كانت تزود الأسر بالفاكهة والخضراوات. في الوقت نفسه، كانت تربية الدواجن والأغنام والبقر توفر البروتين الأساسي، مما يضمن تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي. ومنذ توحدت السعودية، كانت الزراعة محط اهتمام القادة بمبادرات ودعم لا محدود، وتتواصل المبادرات السعودية وتمتد. فعلى سبيل المثال، مبادرة التنمية المستدامة للمراعي والغابات، التي تستهدف زراعة ملايين الأشجار في مختلف أنحاء السعودية، وذلك ضمن رؤية السعودية 2030 . هذه المبادرة، تسعى لتحقيق بيئة وموارد طبيعية مستدامة، من خلال مشروعات تعزز الاستدامة البيئية وتدعم الزراعة باعتبارها جزءًا من الإستراتيجية الشاملة لتحقيق الأمن الغذائي. كذلك تبذل السعودية جهودًا كبيرة لتشجيع الزراعة وتعزيز الإنتاج المحلي. وتشمل هذه الجهود تقديم دعم مالي للمزارعين من خلال صندوق التنمية الزراعية، الذي يوفر قروضاً ميسرة للاستثمار في التكنولوجيا الزراعية الحديثة. كما تشجع الحكومة استخدام التقنيات المتقدمة مثل الزراعة المائية والزراعة الذكية، التي تهدف إلى تحسين الإنتاجية وتقليل استهلاك المياه، وهي مشكلة رئيسية في المملكة نظراً لشح الموارد المائية. وتشترك في هذا الدور وزارة الزراعة، وصندوق التنمية الزراعة، مع الشركات الزراعية سواءً كانت تابعة لصندوق الاستثمار مثل: شركة سالك في تطوير الزراعة وتحقيق الأمن الغذائي، أو الشركات الخاصة مثل المراعي وناد ك والوطنية والصافي وغيرها. وفي ظل نقص الموارد المائية والمناخ القاسي في السعودية، تواجه الزراعة تحديات كبيرة. لذلك تعتمد السعودية على تقنيات جديدة ومبتكرة لتجاوز هذه العقبات. فنرى التعاون والترابط بين البنية التحتية، النقل، التعليم، الطاقة، الصناعة، البنوك، التجارة، القوانين لمواجهة تلك التحديات. فالزراعة لا يمكن أن تتطور بمعزل عن هذه القطاعات، بل تحتاج إلى تكاملها لتشكيل نظام متكامل يدعم التنمية المستدامة.
الأنظمة الزراعية التقليدية التي طورها المزارعون على مر العصور، كانت تقوم على معرفة دقيقة بالطبيعة والبيئة المحيطة. وهذه الأنظمة التي تم تطويرها، تُمثل جزءاً من التراث الثقافي المحلي، وقد أثبتت قدرتها على التكيف مع التغيرات البيئية وضمان استمرارية الحياة عبر الأجيال. والجامعات مع مراكز الأبحاث، لها دور كبير في تطوير تقنيات جديدة يمكن أن تساعد في تطوير الزراعة والقضاء على الآفات والهدر. فعلى سبيل المثال قامت جامعة القصيم مؤخرا ممثلة بكليتي الهندسة والزراعة، بالاستفادة من متبقيات المحاصيل ومخلفات الأشجار، من خلال تحويلها إما لمواد نافعة كالجيلاتين أو إضافات للأدوية، أو تحويلها إلى وقود نظيف. لذا ينبغي استمرار وتكثيف دعم البحوث الزراعية محلياً لتقديم حلول تقنية حديثة تتناسب مع طبيعة البيئة الصحراوية في المملكة. والتركيز على الدراسات التي تهدف لتحسين البنية التحتية الزراعية مثل شبكات الري، وتطوير طرق النقل الزراعي، وتعزيز إنتاج البذور والأسمدة محليًا، بالإضافة إلى تطوير الإرشاد الزراعي، حيث يُساعد المزارعين على حل المشكلات الزراعية على المستوى الميداني. وأحد المشاريع المحلية الناجحة والمنفذة حاليا، هو تطبيق «مرشدك الزراعي» الذي يوفر الدعم المستمر والمباشر للمزارعين من خلال الأكاديميين والخبراء والمستشارين الزراعيين لتبني أحدث التقنيات وتحقيق أعلى مستويات الإنتاجية.
الدول المتقدمة صناعياً مثل اليابان، كوريا الجنوبية، الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، تواصل الحفاظ على قطاع زراعي قوي. رغم قدرتها على استيراد المنتجات الزراعية من الدول الأخرى، إلا أنها تدرك أهمية الزراعة كمصدر للأمن الغذائي والتوازن البيئي.
وهذا يُظهر أن الزراعة ليست مجرد صناعة، بل هي جزء من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الذي يُسهم في رفاهية الشعوب.