د. شاهر النهاري
القارئ الباحث عن الضياء طماع، وهو ملول يرفض التكرار والتشابه والتورية والكذب، ويرفض إعادة اجترار عشب المعلومات وزهورها، التي لم تعد ترفع نسبة هرمون الأدرينالين في مجاري عروقه، ولا تجعله يغمض عينيه، ويعصر جبهته بأنامله، ولا يشعر بتحرك الأشياء في جوفه دوامات، كما أمواج البحر وهي محبوسة في جوف قمقم، يتنفس مارده بالكاد، من فتحة علوية مخنوقة مسدود أغلبها.
والكاتب الكسول بخيل، وصياد بلا طُعم، يريد أن يشد القارئ بخيال عصفورة تمر بالجوار، أو صرخة تستحثه على اللحاق بناموسة خطفت منه قطرة دم، وصعدت للسقف.
الشح في المصداقية لا يتعايش مع صنع المقالات، ولا بد للكاتب الحريص من أن يسمح للقارئ الكريم بدخول مناطق رعشة ما بينه وبين ملابسه، متسللاً من ضيق فتحة الكُم، والتجول بين الجلد والقماش، ليكتشف الخوافي والسواهي، ولا يكتفي بقشعريرة تسبق الدواهي.
القارئ سلبت التقنية الحديثة همته في تفكيك الكلمات بنفسه، فيكتفي بمقطع مصوّر وتعليق، ولذلك نراه يرمق المقال بنظرة استكشاف فوتوغرافية، ينهيها غالباً بنظرة استخفاف، بنية مبطنة متعالية تقرر ترحيل المقال إلى سلة نافية، لا يعود لاستنطاقها.
القارئ الملول يستجدي فضيحة، ويحب أن يستدل على شغاف أسرار الكاتب، وأن يحلب من حلمة وعيه قصص طفولته وخصوصاً تلك التي تحتوي الأسرار والفضائح.
المشكلة أن الكاتب لو تهور وكب العشاء مرة واحدة، فهو بذلك يكتب على كرامته بالإبعاد، فما بعد سرد الفضائح إلا الرقص المبتذل، أو الانزواء، ومحاولة ترميم الغلطة الشنيعة، التي دخل إليها بطوعه، ثم أدرك حجم تهوره.
ديمومة الكاتب في عين القارئ هبة وجاذبية، وحظ ودعم يحتاجه في الإنشاء والتعديل، ووضع نتاجه في فاترينة معرض، ليراه كل عابر سبيل، مع تضخيم أسمائه وصفاته، لعلها تكتب له الخلود، حتى ولو كان ينام على تاريخ من القش، ووسادة من ريش لا يطير، وكذبات تظل تحرق الحقائق، بالتملق، والمديح، لمن يعرف أنهم قادرون على إمداده بالزيت، لينافس رباب ربة البيت!
الكاتب ليس ممثل أداء صامت، ولا خطيب على منبر، ولذلك يظل بينه وبين القارئ مفاتيح أبواب ثقة واحترام، وهي إما أن تسمح للقارئ بدخول خصوصياته، أو أن تستمر مصمتة بفعل المسامير، فلا تحكي إلا بما خلفه الروتين بيننا من حبال النفاق.
أجمل المقالات هي ما تحترم ذات الكاتب، وتمنعه من الرقص المتعري، والمقالات التي يطلبها السوق هي ما يجعل القارئ يشعر بأنه دخل غرفة نوم الكاتب، وهنا تكمن المفارقة، بين قدرة الكاتب على أن يشعر القارئ بكل ذلك، ودون أن يتعرى بالكامل، في عوالم افتراضية تعرف أين تكمن أهمية شعرة معاوية، وكيف تستعصي على الحلاق، ودون أن يقطعها خبلا، ثم يعاود لصقها بشعرة ذيل بقرة صفراء لونها، يطلبها منه القارئ الكسول، المتردد عن الغوص بأغوار المقال.
خصوصيات حياة الكاتب سمات عزيزة، يمكن أن تقرب إنسانية الكاتب لعين وقلب القارئ، ولذلك لا بد من التطرق لها مرات بشفافية بُعد السحابة وقرب عطائها في ذات الوقت، ودون حاجة لاستمطار كيميائي ربما يسعد سهول ربيعه ومبانيه بالخضار مؤقتاً، مهما احتاج بعدها من التطهير.
الكاتب العميق هاوي، وحينما يصبح محترفاً في القص واللصق، فإنه يفقد مصداقيته، وقد يصيغ مقالات ببجاحتها تكتبه شيطانا، يفقد المسافة بينه وبين القارئ الواعي، وحتى لو هجره أغلبية القراء، ممن يتمنون له الزلة.
عالم الكاتب، وعوالم القراء يجب أن يكون بينها أوتار ثقة بالهدف والمردود، ومهما تعرجت الطرق، ولا بد أن يحل بينهما حوار معرفة، واعتراف بالإنسانية الضعيفة القوية، بكل هفواتها وسقطاتها وطموحاتها ومغازيها، وبكونها جزء من المسار العام يحاول التوسط بين العرض والطلب، والمتاح والممنوع، ودون ورطة الغرور، أو الانصهار الكامل بالمرارة، أو ادعاء القدرة على المشي فوق كل حبل مشدود.
لن أدعي الكمال، ولكن لدي خبرة وتجربة وملكة النقد الذاتي، وعندما أكتب أحاول أقناع عقلي ومشاعري بأني أنا المتصل المنفصل الناظر المنظور المهتم والعاجز عن استخدام السحر، أو تقمص هبة الهداية، صدمة لا أستخدمها، وأنا خير من يعرف أن التلميح أفضل مرات عديدة من التوضيح، وكل ذلك يحدث لي بكل هدوء وطولة بال، كوني لست ذلك الإنسان، الذي يشار إليه بالبنان من بين الجموع، ولا من يشار إليه بغمزة عين التحقير.
عندما أكتب، فأنا أخضع لواعز بوح في داخلي، يتحداني أن أتقدم لمسابقات لفت النظر، وأنا أرضى بقوانين اللعبة مهما جارت وانحرف قيادها، وأدرك بتجربتي أن رضا الناس غاية لا يمكن إدراكها، وحتى ولو اضطررت لإدخال القراء معي في غرفة نومي، فليس من اللائق أن أغمي أعينهم، ولا أن أتركهم يروا كامل الموجود، لهم عندي الإنسان والعقل والمشاعر، والذكريات التي عشتها، وطفولتي والشكوى، والعتب، ونصائح المحب صاحب الخبرة، ولكن كل ذلك يجب أن يتوقف عند حدود صفاء غير مرئي، يدي م الاحترام، وينبذ الإسفاف.
فعلاً أجمل المقالات عندي ما أجد نفسي فيها دون قيود، ودون حدود، وبوطنية للأرض، وباحترام يشملني ويشمل من يقرؤون لي، ومن يسايرون حتى هفواتي، وتلك ندرة هاجس نعيش بالتقرب لها، وإن لم نبلغها.