علي حسين (السعلي)
قالت لي ذات مساء (أنت مبدع، والمثقف لا يُمَلَ!) بهذه العبارة أبتدئ مقالي لهذا الأسبوع مستعينا بالله ثم اطلاعاتي وقراءاتي وتجاربي الضاربة بشيء منها:
هل يتوقف المثقف، ومتى، وما هي الأماني المغلقة ؟
يقول فرانس كافكا عن هذا:
«لا أستطيع تخليص نفسي من الشعور بأنني لست في المكان المناسب . “لم أعد أتحمل الآن حتى نظرات البشر، ليس عداءً للبشر، ولكن نظرات البشر، حضورهم، جلوسهم، كل هذا هو أكثر من اللازم» بهذه العبارة من كافكا في ظني يتوقف المثقف ! متى ؟ حين يرى المثقف بأنه ليس في المكان المناسب، هذا شعور أسميه ( الموت البطيء) اعتقال الشعور بالسلاسل في زاوية ضيقة لا تملك عندها حتى الهجوم، يتوقف المثقف حين يستسلم لسقوط حروفه في بئر لا ماء فيها، يتوقف كلما يشعر بأن ذاته تريد أن تتمرد بداخله ونفسه تكبح جماح الهروب، يتوقف بأن حبر قلمه « الحروف بشاشة هاتفه « جفّ ، ولم يعد يبصر الحروف فعندما يضغط على حرف منها يتفاجأ أن حرفا آخر قفز في سطور كتابته فيتغير الحرف والمعنى، يتوقف المثقف بأن نبضات قلبه ساكنة شعوريا ، وعقله ممتلئ بالأفكار المزدحمة، يتوقف بأن ما يكتبه ليس مقروءا، وحين تنضج الفكرة برأسه تصدمه عين القارئ، وعقبات الرقيب، يتوقف إذا تسربل بالخوف في ثياب المجهول، يتوقف المثقف حين يمرض الفكر في مستشفى الثقافة ويحجز له غرفة بالعناية الكتابية، يتوقف إذا تساوى بين ناظريه حول الكلمات المتقاطعة أفقيا، يتوقف أخيراً وليس آخراً بأن تكون بضاعته مزجاة على قارعة الأدب، ورصيف الثقافة والآن نأتي لسؤال ثالث :
هل يعود المثقف للركض في مضمار الكتابة؟ وكيف ؟
يعود المثقف للركض نعم يعود بقوة حرفه وعنفوان سطره وكد كتابته .. متى ؟
إذا - كما قال كافكا - إذا شعر أنه في المكان المناسب إذا امتلك حرفا مذهّبا ، ومالا يكافؤه ، يعينه على استحلاب الأفكار لا تنغلق في دائرة أمانيه، يعود من حلمه سالما من كل نقد هادم، غانما من كل حسد تلجلج في صدور أعداء النجاح ، يعود حين يتساوي الحرف على السطر إبداعا، عدلا ، تق، واقعا يراه القاصي والداني ، يعود إذا لم يهتم بأن حرفه الذي يكتبه يعبّر عن واقعه ويجد من يحمله إلى السماء الثامنة ويهطل به وبحروفه غيثا …
والمثقف يا سادة لا يعيش في برج عاجي هو إنسان يكتب ترجمة أفكار غيره، ويحرم لذة نومه، وينسى من يعول لحظة الكتابة، المثقف يعود لهوايته إذا فكر بالحرف كتابة وغيره يجلده نسيانا، ولا يلتفت له إلا إذا قضى نحبه … وبعدها ترى العجب العجاب فيمن يمدحه ميتا ، ويذمه حيا ، والله المستعان !
يحضرني بيت للحطيئة «بتصرف مني»:
ماذا تقول لأفراح بـذي حرن
حرف الحواصِل لا سطر ولا مال
سطر وفاصلة
غينكِ حبيبتي في أول سطوري
وبحر الهوى يلاطم روحي
حكايتي بدأت منذ انتساب حرفي
لحرفك، فانداح الغرام على الغرام
وابتدر همهمات العشق
وقلبي والكلام
أعرف أنكِ ربما وحيثما ولكن
لا يزال نبض آهتي
يدندن يا جروحي