أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قلتُ لـ(ذي القُروح)، عَقِب ما أثاره في المساق الماضي، حول: الفارق بين حقيقة النصِّ وقراءة القارئ الرَّغْبَوي! وما يحدث غالبًا مع معظم الآيات القرآنيَّة، التي يمكن أن يُحتجَّ بها على سماحة الإسلام وبِرِّه وعدله وحكمته؛ إذ ما تلبث أن تجد أنَّ هناك من السَّلَف من تطوَّع للقول بنَسْخ ما يُمثِّل تلك المعاني المشرقة، في الوقت الذي يُعمِّم، ويمطُّ، وينفخ، ويُطلِق العنان للمعاني التأويليَّة في آياتٍ أخر، تتعلَّق بالقتال، ليُظهِر الإسلام حربًا ضروسًا على العالمَين لا تُبقي ولا تَذر:
ـ على أنَّ في مقابل هذا خطابًا تمييعيًّا خانعًا، يَصعَد منابر العقلانيَّة ونَبْذ العنتريَّات! وكم تُزَيَّن الهزائمُ بدعوَى العقلانيَّة تلك!
ـ وأنت لا ترى جبانًا، ولا عميلًا، ولا مستسلمًا، إلَّا يسوِّغ موقفه بـ«العقلانيَّة»، و«السَّلام»، و«نبذ العنتريَّات»، وإنَّما صاحبك «العقلاني» مهزوم.. مهزوم.. مهزوم.. يا ولدي! تلك هي الحكاية والسَّلام!
ـ (عنترة بن شدَّاد العَبْسي)- الشاعر والبطل الواقعي أو الأسطوري- الثائر على الظُّلم، والعنصريَّة، والاضطهاد.
ـ لكنَّ العَرَب العباقرة قد اشتقُّوا منه صفة العنتريَّة المذمومة، ليمتدحوا: الظُّلم، والعنصريَّة، والاضطهاد، والسكوت عنها! ولذلك فأنت لا تكاد تقرأ خطاب العقلانيَّة العَرَبيَّة المدَّعاة في غير هذا السياق! لا تكاد تقرأها في شأنٍ اجتماعي، أو ثقافي! غير أنَّها تقفز إبَّان المواجهات الحربيَّة إلى الواجهة. فتسمع أنَّ على العَرَب أن يكونوا عقلانيِّين مع (إسرائيل)، مثلًا، وألا يُظهِروا العنتريَّات القديمة، وإنْ أفناهم العدوُّ عن بكرة أبيهم وأُمِّهم. عقلانيَّة عَرَبيَّة فريدة من نوعها، لا تراها عند عدوٍّ ولا صديق أبدًا! لا تراها عند (إسرائيل)، ولا عند (أميركا)، ولا عند (روسيا)، ولا عند (الفُرس)، ولا عند أيَّة أُمَّة من الأُمم التي تحترم نفسها، لا في التاريخ القديم ولا في العصر الحاضر. بل إنَّ تلك الأُمم كثيرًا ما تمجِّد جُنون جُنونها، وتُعلي ذِكر أبطالها وعناترها؛ لأنها ترى في ذلك القُوَّة المعنويَّة لأجيالها، لتحفظ عليها كيانها، وحوافز بقائها ومواجهاتها، وإنْ لم تَجِد تلك البطولات والعنتريَّات، اختلقتها اختلاقًا، في إطار الدعم النفسي للذات، والحرب النفسيَّة على الخصوم. وتظهر هذه الحالة لدَى كلِّ الشعوب الحيَّة في ظروف المواجهات القوميَّة بصفةٍ خاصَّة.
ـ على حين يظهر خلاف ذلك لدَى بعض العُربان في تلك الظروف عينها، وإنْ ظلَّت تظهر العنتريَّات بين القبائل العَرَبيَّة منذ عصر عنترة الجاهلي!
ـ طبعًا. والسبب واضح، وهو لتبرير الهزائم بالتكتيكات، وتسويغ الخَور بالعقلانيَّات، وتمرير الاستسلام بالسَّلام والجنوح إليه، وإنْ من طَرَفٍ واحد، هو جناحهم هم فقط! فلا يختلط، إذن، حابل هذا بنابل ذلك في هذا التحليل، فلكل مقامٍ مقال.
ـ ثمَّ لا تنس، يا (ذا القُروح)، في هذا السياق، أنَّ التاريخ قد صُنع معظمه صناعةً منحازة، عبر رحلته الطويلة خلال منعرجاتٍ صراعيَّة شتَّى!
ـ هذا صحيح، ولذا أشتغلَ بتفسير «القرآن» علماءُ كان أشهرهم ذا يَدَين في الكتابة، يَدٌ تكتب التفسير، ويَدٌ تكتب التاريخ، مغلولتَين كلتيهما بسياسة العصر، وفِقه الدولة التي يدين لها بالولاء. ولذا وُظِّف النصُّ أحيانًا لمآرب متناقضة، وما لم يستجب من النصِّ لتلك المآرب، لُوِيَتْ أعناقه بالتأويل، وإنْ كان مُعارضًا لها على نحوٍ صارخ، فإذا لم يُفلِح التأويل لتحقيق الهدف، لُجئ إلى التأوُّل، أو مقولة الناسخ والمنسوخ، التي توشك أن تمسخ النصَّ مسخًا، بل إن تقول بفكرة «البَداء»، وتنسبها إلى الله، كما فعل مَن قبلهم مِن أهل الكتاب!
ـ مثال ذلك؟
ـ لقد جاء، مثلًا، مَن قال بنسخ آية «لا إِكراهَ في الدِّين»، أو بتخصيصها، أو بغير ذلك من أساليب الالتفافات البَشَريَّة المعهودة، التي طالما أعرضتْ عن صريح ما جاء في النصِّ، لتنتهي إلى نتيجة حتميَّة من تشويهٍ شامل، بعد أن يُلغَى النصُّ أو يُفرَغ من محتواه.
ـ ما الفرق، إذن، بين فعل هؤلاء وفعل (بني إسرائيل) الذين عابهم «القرآن» في قوله: «تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ، تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا»؟!
ـ تشابهت قلوبهم! وإلى أمثال هؤلاء يرجع الطاعنون، أمس واليوم، متقوِّين بأقوالهم المبثوثة في كتبهم، التي وجدوا فيها ضالتهم، قائلين: ها هي حتى كتبكم التفسيريَّة تكذِّب ما تزعمون مجيئه في كتابكم؛ ففريقٌ مؤوَّلٌ وفريق تنسخون!
ـ وإنْ تعجب من مغالطات الآخَر، فالعجب الأكبر من تدليس أهل بيتك!
ـ ومن هؤلاء صاحبك المعمَّم بالسواد، الذي حدثتني عنه في المساقات السالفة. فهو إذ يشنِّع على رجال الدِّين لتدجيلهم على الناس، كما يقول، يشتغل على الجبهة المضادَّة، داعيًا إلى دِين وجداني جديد. ومَن هذه غاية فكره فلا يُستبعَد منه شيء. وكان المتوقَّع أن يبدو عِلميًّا عقلانيًّا، في الأقل، فلا يكذب هو الآخَر على العوامِّ وأشباههم.
ـ أتريد المزيد ممَّا يقول؟
ـ هات ما لديك!
ـ يسترسل سماحته العظمى في القول: إنَّ من أوجه التناقض في «القرآن» أنه مرَّةً يقول: «وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ»، ومرَّةً يقول: «خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»!
ـ انظر كيف يزيِّف المعلومات هاهنا؟! وهذا في غاية السخف والتدجيل. فما في «القرآن»: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذَابِ، وَلَن يُخْلِفَ اللَّـهُ وَعْدَهُ. وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ»، وفي الآية الأخرى: «تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» فالآية الأُولى، من (سُورة الحج)، تتحدَّث عن اليوم «عند ربك»، والأخرى، من (سُورة المعارج)، عن الزمن الذي تعرج فيه الملائكة والرُّوح. فذاك يوم وهذا يوم. فلا تَناقض، والآية واضحة في الاختلاف بين الأمرَين ومُدَّة اليومَين. أمَّا الافتراض أنَّ مجرد استعمال مصطلح «يوم» يوجب أن يكون زمنه واحدًا، فتحكُّم بلا معنى؛ فهناك يوم من أربع وعشرين ساعة، ويوم من ألف سنة عند ربك، وأيام أخرى قد تطول وقد تقصر. ونحن نعرف الآن، مثلًا، السنة الحسابيَّة المعروفة: 365 يومًا، لكن هناك ما يُسمَّى السنة الضوئيَّة.
ـ وقياسًا على ذلك هناك اليوم الضوئي، ونحو هذه من الفوارق، التي لا ينكرها عاقل.
ـ الرجل لا يحترم عقول الناس، ولا يراعي الأمانة العِلميَّة فيما يسوق مما يَعُدُّه شواهد دامغة!
ـ وهو بالطبع يغمغم بالآيات أمام الجمهور في محاضراته، ولا يقرؤها كما هي، لكي يدهش الناس بعبقرية اكتشافاته، فيقول هكذا: «مرَّة يقول «وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ»، ومرَّة «خمسين ألف سنة»!» ولا يقرأ الآيات.
ـ أ فمثل هذا يحكِّم العقل أصلًا، أو يراعي أمانة النقل؟
ـ ومن اكتشافاته الوجدانيَّة في تناقض «القرآن» أيضًا الآية التي تورِد عبارة: «لا يتساءلون»، ثمَّ الآية: «فأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ». كيف؟
ـ كيف.. اسأله هو، لعلَّه يجد لك إجابةً تحت العمامة! يقول تعالى: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ، قَالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ؛ لَعَلِّيْ أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ! كَلَّا، إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا. وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ.» ويقول في آيةٍ أخرى: «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّيْ كَانَ لِي قَرِينٌ...».
ـ وهذا تناقضٌ لديه، وبحسب تصوُّره أو دعواه!
ـ دعنا نُحسِن به الظنَّ، فنقول إنَّ التناقض لديه ناشئٌ عن ضغط العمامة على يافوخه! ولا تستهن بهذا العامل! أمَّا ما زعمه، ففي منتهى الجهل بالأساليب والسياقات معًا. ذلك أنَّ الآية الأُولى تتحدَّث عن (الكافرين)، والآية الأخرى عن (المؤمنين)، من أهل الجنة. ثم إنَّ قوله «يتساءلون» في الآية الأُولى بمعنى أنهم من ذهولهم عند النفخ في الصُّوْر لا يسأل بعضهم عن بعض، وإنْ كان من أنسبائه أو عائلته، «فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ».
ـ وهذا تعبير متداول حتى بالعامِّيَّة؛ فالذي «لا يسأل» هو الذي لا يكترث.
ـ نعم. أ فيقتضي التعبير بذلك القول: إنَّ التساؤل بعدئذٍ في مناسبةٍ أخرى لم يَعُد واردًا؟ وسيكون وروده مناقضًا لما جاء من قبل، كأن يتساءل أهل الجنة، أو حتى أهل جهنم، عن بعض شأنهم؟!
ـ لست أدري كيف يفهم النصوصَ الرجُل؟
ـ هو غير مؤهَّل ليفهم ما دُون هذا، ما دام هذا قوله.
ـ الآيات أوضح من أن توضح، غير أن الغاية هنا إظهار مدى هذا التلاعب المؤدلَج بالنصوص.
ـ وهو- إلى جانب هذا كلِّه- ولفرط أمانته العِلميَّة، يفعل كما فعل القُمُّص المشلوح، الذي ناقشنا محاضراته هو الآخَر من قبل.
ـ تعدَّدت الأسماء- كتعدُّد أسماء العصر الأُموي بين (يزيد) و(الوليد)- والفعل واحد في النهاية، لا وليدَ ثمَّة ولا يزيد!
ـ ذلك أنهما يرجعان إلى كتابٍ واحدٍ، هو «تأويل مشكل القرآن»، لـ(ابن قتيبة)، الذي عاش في القرن الثاني للهجرة، ويتظاهران بأنهما يكتشفان بفطنتَيهما مسائل جديدة، مفحِمة لا جواب عنها. مع أن ابن قتيبة- قبل أكثر من ألف سنة- كان قد عرض تلك المسائل، وأكثر منها، في كتابه المذكور، مما سمَّاه «الحكاية عن الطاعنين»، من أجداد هؤلاء وسلفهم «الطالح»، ثمَّ ردَّ عليها واحدةً واحدةً بالتفصيل العِلمي، لُغويًّا وبلاغيًّا.
ـ فما أشبه الليلة بالبارحة، والقُمُّص بالمُعَمَّم!
** **
- (العضو السابق بمجلس الشورى- الأستاذ بجامعة الملِك سعود)