عبدالله العولقي
أول ما عرفت عن هذا المصطلح عن طريق الناقد الأديب إحسان عباس، ثم وقعت بين يدي دراسة قيمة ورائعة للدكتور خالد بن صالح السعراني بعنوان (اللياقة معياراً نقدياً في شعر المتنبي)، وبعدها قرأت دراسة جامعية مهمة كتبها الباحث ضيف الله السعيد بعنوان (المتنبي في المشروع النقدي عند طه حسين)، والمقصود باللياقة هنا هي مراعاة الذائقة المجتمعية والعرف السائد، وبالتالي فكل ما يخالف هذه الذائقة المجتمعية فإنه يعد غير لائق، وفي هذا الفصل لخصنا بعض ما جاء في تلك الدراسة القيمة.
المتتبع لأمر اللياقة في نقد شعر المتنبي سيجد الأمر واسعاً جداً ولا سيما ما يتعلق باتفاق واختلاف النقاد حول ألفاظه ومعانيه، وأهم النقاد الذين تعرضوا قديماً لمعيار اللياقة في نقد المتنبي هم ابن جني والثعالبي والجرجاني وابن سيده وغيرهم، وللمعلومية فاللياقة لا تعد معياراً دقيقاً عند العرب وإنما هي معيار نسبي، وتتخذ في كتابات النقاد القدماء بعدة عبارات مترادفة مثل (لا يحمد، غير جيد، مأخذ، التناسب، المناسبة، المعيب، وهكذا).
وكان الشاعر العظيم أبو العلاء المعري من المنافحين عن شعر المتنبي ويرفض معيار اللياقة في شعره، ويسرد لنا الواحدي رواية عن ذلك، فيقول: قرأت على أبي العلاء المعري ومنزلته في الشعر ما قد علمه من كان ذا أدب، فقلت له يوماً في كلمة ما: ما ضر أبا الطيب، لو قال مكان هذه الكلمة كلمة أخرى أوردتها!!، فتجهم وجهه، ثم أبان لي عوار الكلمة التي ظننتها، ثم قال لي: لا تظن أنك تقدر على إبدال كلمة واحدة من شعره بما هو خير منها!!، ومثل أبي العلاء كثير، فقد افتتن الناس والأدباء بشعر المتنبي عبر العصور وبالغوا في شعره.
الأديب إحسان عباس كان يرى أن مفهوم ومبدأ اللياقة عموماً قد نشأ في أواخر القرن الثاني الهجري، وقد عرفه النقاد العرب وتحدثوا عنه وإن لم يخصصوا له باباً محدداً، وإنما جاء مبثوثاً في نقدهم لشعر المتنبي وغيره، وقد يجيء أحياناً تحت مصطلحات أخرى تحمل نفس المفهوم والمعنى، وقد جاء البحث المذكور من زاويتين:
1 - معيار اللياقة في ضوء السياق الخارجي لنصوص المتنبي ( نصوصه المرتبطة بالأعراف والتقاليد ).
2 - معيار اللياقة في ضوء السياق الداخلي لنصوص المتنبي (النصوص المرتبطة بالمبدأ الجمالي ).
أما موضوع العرف والتقليد العربي، فمثلاً إن كان في عرق الممدوح أو شكله ما يستعاب فلا ينبغي التطرق إليه من قريب أو من بعيد، حتى وإن كان في معرض المدح، وإلا كان مدحاً بما يشبه الذم، وموضع الشاهد هنا هو سواد الحاكم كافور الإخشيدي وبالتالي فلا يستحسن ذكر اللون الأسود ولا حتى نقيضه الأبيض، لكن المتنبي في أغلب مدائحه لكافور يتعرض للون كنوع من مخالفة العرف والذوق العربي، ولعله قاصداً ذلك عن عمد، فكافور ليس عربياً وبالتالي لا ينطبق عليه العرف، كما أنه يريد له المدح بما يشبه الذم، فمنذ وطأت قدم المتنبي مصر وهو يحتقر كافور وطريقة وصوله للحكم في الفسطاط، ومن هنا جاءت مخالفة المتنبي للعرف العربي حول اللون.
قال ابن خنزابه: لقد كان المتنبي يسخر من كافور في مدائحه عند ذكر اللون، وقال الوحيدي: كان المتنبي يعلم أن ذكر السواد على مسامع كافور أمر من الموت، وبالرغم من هذا كله، فنقول إن المتنبي قد أجاد وأبدع في وصف الأبيض والأسود، ومن ذلك قوله:
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت بياضاً خلفها ومآقيا
فقيل عن هذا البيت: هو أحسن ما يمدح به ملك أسود، ولا نهاية لحسن هذا التصوير.
وبالنسبة لموضوع اللياقة الجمالية، فهناك العديد من الأبيات التي علق عليها النقاد وتباينوا في آرائهم حولها، ومن ذلك قول المتنبي:
وغير فؤادي للغواني رقية
وغير بناني للزجاج ركاب
وموضع اللياقة ذكره ابن فورجة، حيث إنه ينحصر في تفضيل التنزه عن الخمر على التنزه بالشطرنج، وهذا معيار غير جمالي.
ومن ذلك قوله:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم
قال ابن جني: في آخر هذا البيت منافرة لأوله، لأن الشجاعة لا تذكر مع علم الغيب.
ومن ذلك قوله:
قد بلغت الذي أردت من البر
ومن حقك ذا الشريف عليكا
فقد رأى النقاد أن كلمة ( ذا ) ضعيفة ودالة على التكلف والسخافة، ومن المعروف أن المتنبي من أكثر الشعراء العرب استعمالاً لاسم الإشارة ( ذا )، وهي أداة ضعيفة في صنعة الشعر كما يرى الجرجاني.
ومن ذلك أيضاً، قوله:
وكلما نطحت تحت العجاج به
أسد الكتائب رامته ولم يرم
وقد عابوا على المتنبي لفظة النطح، وقالوا إنها تناسب الشياه ولا تناسب الأسود والضياغم.
ومن ذلك أيضاً، قوله:
وقد شرف الله أرضاً أنت ساكنها
وشرف الناس إذ سواك إنسانا
قال ابن جني: ما أعجبني قوله ( سواك ) لأنه لا يليق بشرف ألفاظه، ولو قال أنشاك لكان أليق بالحال، وقد تبعه الثعالبي فيما ذهب إليه ونقل كلامه حرفياً.
الأمر الآخر والمتعلق بمعيار اللياقة هو الألفاظ الغريبة التي يحشو المتنبي بها شعره تعسفاً ووحشية، فعلى الرغم من قوة أسلوبه الشعري وبراعة اختياره للألفاظ والمعاني إلا أن قارئ ديوانه يستعجب من تلك الألفاظ الوحشية التي يستمجها السمع وينفر منها الطبع، وهذه من تناقضات المتنبي أيضا ً، ومن ذلك قوله:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم
شيم على الحسب الأغر دلائل
علق الثعالبي على لفظة جفخت قائلاً: توحش وتبغض ما شاء الحاسد، كما عيب على الشاعر قوله:
بالواخذات وحاديها وبي قمر
يظل من وخدها في الخدر حشيانا
قال الثعالبي: وحشيان من الغريب الوحشي الذي لا يأنس به السمع ولا يقبله العقل.
كما عيب على المتنبي قوله:
أيفطمه التوراب قبل فطامه
ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
فالتوراب لغة في التراب شاذة غير كثيرة، ويعلق الثعالبي على هذا البيت بقوله: وليس ذلك سائغاً لمثله وهو وليد قرية ومعلم صبية، كما يؤكد الدكتور محمد شعيب بقوله: والتوارب من الكلمات القليلة الاستعمال، وإن كانت صحيحة من الوجهة اللغوية حيث وردت في معاجم اللغة، إلا أن الصحة شيء وما نحن بسبيله شيء آخر، ولهذا عد بعض النقاد الأبيات التي رأوها مشتملة على كلمات غريبة ووجدوها لا تتعدى تقريباً ثلاثة عشر بيتاً أحصاها الثعالبي في كتابه وبوب لها باباً سماه استعمال الغريب الوحشي.
ومن لطائف ما حصل مع المتنبي حول بيته الشهير والجميل:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
أن ابن القطاع الصقلي سأل المتنبي حول هذا البيت، وقال له: كيف أضمرت قبل الذكر؟، فرد المتنبي: أن الأمر ليس كذلك، وإنما (لها) جمع لهاة، وهي الفاعلة وليست المنايا، قال البرقوقي: اللهاة: هي اللحمة المشرفة على الحلق، في أقصى سقف الفم، والمعنى: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت لهوات المنايا سبيلاً إلى أرواحنا !!.
وخاتمة القول.. لا يزال النقاد منقسمين حول أبي المحسد، منهم من يتصيد أخطاءه ويصطاد في الماء العكر، ومنهم من يعشق شعره وقصائده ويستجلب الأعذار ويصد الأخطاء عن شعره وأدبه.