د.نادية هناوي
ثمة جوانب أهملتها المدرسة البنيوية أو لم تأخذها بعين الجد، فكان أن اهتم بها المنظرون الألمان والامريكان اهتماما جادا. وهذا ما مهد الطريق نحو التحول بالنظرية السردية تدريجيا وبقوة من كونها مرهونة بالنقد الفرانكفوني إلى أن تكون موسومة بالفكر الانجلوامريكي. وبالفعل تم ذلك خلال أقل من عشرين عاما. ويعد ديفيد هيرمان اول من وضع أساسات هذا التحول باجتراحه مصطلح( علم السرد) عام 1997 كمشروع كان قد اشتغل عليه نقاد مدرسة شيكاغو في منتصف القرن العشرين ثم انبرت المدرسة الانجلوامريكية الى القيام به؛ فتوسعت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين دراسة السرد وتنوعت تخصصاته وأخذ عدد المنظرين والدارسين يزداد تدريجيا ومن شتى الجنسيات والجغرافيات. وتفرعت عن علم السرد علوم جديدة ومنها علم السرد غير الطبيعي وما فتحه من آفاق ومسارات وسعت نطاق النظرية السردية، ويعد كتاب جيرالد برنس( علم السرد: الشكل والوظيفة في السرد The Narratology; Form and Function of Narrative ) 1982 أهم مراجع علم السرد غير الطبيعي، والسبب هو التفاتته المهمة والمبكرة إلى السرديات المهملة كروايات وقصص أوروبية كلاسيكية تنطبق عليها أطروحته في لا موثوقية السارد وفيها دليل كاف على إتباعية السرد الأوروبي لتقاليد السرد العربي القديم، وأهم تلك التقاليد (اللاواقعية) التي تفرض وجود حكاء هو كيان حقيقي سابق ومهيمن على هيأة قولية متخيلة وتالية تتمثل في السارد.
ولأن المسافة تغيرت بين السارد والمسرود من جهة وبين السارد والمسرود له من جهة أخرى، تغدو العلاقة بين السارد والمسرود علاقة عملية فيها السارد هو الرئيس بينما العلاقة بين السارد والمسرود له علاقة ثقة ذهنية عاطفية أو أخلاقية أو غيرها. وبإمكان السارد أن يقع في هفوات عملية مع مسروداته كاستطرادات أو عدم تسلسل ولكنه لا يستطيع ذلك مع المسرود له الذي هو متربص به لأنه يعي ما لا تعيه المسرودات. ولبعد المسافة بينه وبين السارد ـ سواء أشار السارد إلى نفسه ب( أنا) أو (هو) أو( أنت) ـ فانه يظل في نظر المسرود له واحدا هو( أنا )
اما إذا تعدد السراد في الرواية، فإن المسرود له لا يتعدد كما أن تغاير تراتبية السراد لن يؤثر في المسرود له الذي يحضر بصيغة ( أنت) سواء أعطاه السارد دورا أو لم يعطه. وحينما يشخّصه السارد فلكي يجعله مشاركا في الأحداث بوصفه مكونا من مكونات العمل السردي. ولن يتمكن السارد من الاستغناء عنه، لأنه هو الذي يمنحه تلك الموثوقية ويجعل وجهة نظره منطقية ومقبولة. ووفقا لهذا التحصيل يغدو صحيحا القول إن مركزية السارد التي بسببها فقد الموثوقية هي لا مركزية المسرود له التي لا تأخذ منه الموثوقية.
وإذا كان السرد يعرف بأنه نظام لسلسلة أحداث تنطق بتراتبية زمانية معينة، فان السارد هو الفاعل الذي يقوم بهذا النشاط متبعا قوانين معينة تساعده في ضبط المسافة بينه وبين المسرودات والمسرود له. وما دامت عملية ضبط المسافات لا تضطرب، فان السارد موثوق به وإلا فإن أي خرق لواحد أو أكثر من تلك القوانين، سيؤثر في إيقاعية السرد وسيساهم في تغيير المنظور السردي ومن ثم التشكيك بفاعلية السارد.
ولا شك في أن عملية خرق السارد للقوانين لا تكون إلا إذا كان مضطرا إليها اضطرارا، ومن موجبات الاضطرار استعماله بعض الأفعال الخيالية المستحيلة وغير المعقولة من التي لا يستنبطها من الواقع أو لا يبنيها على ما هو واقعي، بل يخترعها اختراعا. وهو ما يخلخل المسافة بين المسرود والمسرود له، فتبدو بعيدة نسبيا، ولا يكون المنظور السردي مؤديا وظيفته لعدم تساوي المسافات البينية بين السارد ومسروداته والمسرود له. مما نجده في قصص الأطفال والخيال العلمي حيث الخرافة هي الأساس الذي منه ينطلق السارد في بناء أفعاله وشخصياته. فكيف يمكن إذن للسارد أن يكون موثوقا ؟
لقد أكد جيرالد برنس ضرورة وجود كيان يسوغ للسارد أي خرق يخلل قوانين القص، ويسمح للمسرودات أن تكون حية ومن صنع ذلك الكيان الأول وبما يقلل من تضاد عمل المسرود له مع عمل السارد. ولا يتوانى برنس من مجاراة الشكلانيين والبنيويين في التفريق بين الحكاية كمتن والقصة كمبنى على أساس أن الأولى بلا حبكة والأخرى بحبكة.
ولكننا نرى أن في هذا التفريق إلغاء لوجود( الحكاء)الذي له بشكل غير مباشر أهميته كعنصر سردي مهم يمنح السارد الثقة في صنع الحبكة ويقلل من تضادية المسرود له مع السارد بعكس الشكلانيين الذين اقتصروا في التنظير للسرد على «سارد ومسرود ومسرود له».
وهم وإن وضّحوا وظيفة السارد وأنواعه ووجهات نظره وبينوا قوانين السرد ودور المسرودات وأنواعها، فأنهم لم يوضحوا كينونة المسرود له وأدواره إلا بشكل عمومي لا دلائل عليه سوى ما يخدم السارد ومسروداته. وعلى الرغم من محاولة ما بعد البنيويين معالجة هذا الأمر ومعهم بعض السيميائيين الذين أفردوا للمسرود مكانا في تنظيرات هم، فإنهم بالمجموع لم يقدموا ما يقنع تماما بأن المسرود له عنصر وظيفي وله وجود فني، يضاهي وجود السارد ويكمل الثلاثية النصية في العملية السردية. لسبب بسيط هو أنهم تركوا البحث في الأصول وتجنبوا الوقوف عند مرويات الآداب الشرقية وتحديدا الادب العربي وما فيه من تقاليد سردية قديمة.
فلم يفترض البنيويون احتمال تعاكس عمل المسرود له مع عمل السارد في صنع الحبكة والذي به يفقد السارد الموثوقية، فيبدو كاذبا أمام القارئ إنما افترضوا بالمقابل أن يكون المسرود له ذا وعي ذاتي فيشارك مع السارد بالتفكر أو ممارسة السمات الجسدية كالإرادة أو التحدث أو الضحك أو البكاء وما إلى ذلك من طبائع بشرية، فلا تختل المسافة بينهما كثيرا.
لكن ماذا لو كان السارد بهيئة غير بشرية؟ هل يبقى المسرود له على صورته البشرية ؟ وما النواحي التي ستبدو على السرد حين يكون السارد غير بشري ويكون المسرود بشريا ؟ هل يغدو السرد متعارضا والسارد متضادا مع المسرود له؟ وأية قيمة للسرد وهو يعكس تعارضا يشي بفشل السارد في تقديم نص منطقي ومقبول؟
هذا ما لا يجيب عنه السرد البنيوي ولا ما بعد البنيوي ولكنهما يتذرعان بحقيقة أن عملية السرد إنما تكون على نية أن السارد بشري أيا كان اسمه أو توصيفه أو نوعه أو هويته.
وهو ما يراه جيرالد برنس نوعا من الهروب من مواجهة الخلل في خطاطة البناء الثلاثي للسرد كسارد ومسرود ومسرود له. وسواء حضر المؤلف والقارئ أو اُستبعدا، فان ثمة بنية سردية لا يمكن التغافل عن أهميتها مثلما لا يمكن التغافل عن وجود سرد غير واقعي يقابل السرد الواقعي.
ولقد استمد برنس تصوراته من منظرين أمريكيين سبقوه واتخذهم مرجعا له فمثلا استمد من برسي لوبوك منظوره إلى أشكال السرد التي يتم إنتاجها بقصد تنظيم العملية السردية من دون تعمد في المحاكاة السردية( مادة الحكي) كمفهوم العرضshowing المتمثل بالمشهد الدرامي ونقيضه مفهوم الإخبار telling المتمثل بالوصف والمشهد التصويري للمواقف والوقائع.