إعداد - ا. د. محمد بن يسلم شبراق:
التغير المناخي وأثره على الحشرات والطيور
خرجنا من المطعم لنبحث عن مقهى نستكمل فيه حديثنا حتى يحين وقت صلاة العشاء، وقد احترنا في اختيار المكان المناسب بين زخم المقاهي التي انتشرت بشكل لافت بمحافظة الطائف، ولجمال الأجواء الليلية بالطائف وحاجتنا للمشي لهضم تلك الوجبة الدسمة قررنا المشي على أقدامنا بدلاً من الجلوس بمقهى، وتذكرنا أيضاً أن محافظة الطائف قد حصلت على شهادة المدينة الصحية قبل سنوات، كما تم خلال هذا العام تجديد شهادة اعتمادها كمدينة صحية للمرة الثانية كأول مدينة سعودية تحصل عليها لمرتين، وقد اخترنا المنطقة حول مسجد الملك فهد -رحمة الله عليه- مكاناً مرشحاً للمشي، وبالفعل وصلنا لمسجد الملك فهد والتي كانت الأرصفة المحيطة به تعج بالعوائل والأفراد، فذاك يمشي وآخر يهرول وعوائل مع أطفالهم يمشون على الأرصفة المحيطة بالمسجد، وقد كان اختيارنا للمشي بدلاً من احتساء القهوة موفقاً، ومناسبا لاستكمال حديثنا عن الحشرات والطيور. وما إن بدأت أرجلنا تتحرك وندخل أجواء المشي حتى عدنا لحديثنا السابق وبدأت أجيب أبي سالم عن سؤاله عن العلاقة بين التغيرات المناخية والطيور والحشرات.
قد يحتاج تحديد هذه العلاقة هنا بالمملكة إلى وقت طويل ودراسات مطولة، وإن كانت هناك مؤشرات تدل على وجود هذه العلاقة، فمثلاً تناقص طيور الدخل المهاجرة لأسباب منها الصيد الجائر والتغيرات المناخية والتي ذكرتها البحوث والمؤثرة على إنتاجيتها وذلك بالمناطق الشمالية من الكرة الأرضية، ربما تكون أحد أسباب نفوق بعض أنواع أشجار السنط- السمر (Vachellia sp)، فطيور الدخل (Warbler) خلال هجرتها تقوم بالتغذي على الحشرات ويرقاتها على هذه الأشجار، وربما تدهور أعداد الطيور المهاجرة أعطت فرصة لهذه الحشرات ويرقاتها لمهاجمة هذه الأشجار بشراسة، مما أدى إلى موت للعديد من هذه الأشجار.
ومن الأمثلة الأخرى على علاقة الطيور والحشرات، دراسة على طائر يعرف بصائد الذباب الأبقع الأوراسي Ficedula hypoleuca وهو من الطيور المهاجرة العابرة والزائرة الشتوية لشمال المملكة العربية السعودية، فقد بينت النتائج الأولية أنه بسبب التغيرات المناخية أصبح وصولها من رحلتها لمناطق تكاثرها متأخراً، وتكون يرقات الفراشات قد وصلت لطور الحشرة كاملة، فتقوم الطيور البالغة بتغذية الصغار من الغذاء المتوفر والمتمثل بطور الحشرة الكاملة وهذه النوعية من الغذاء لا تستطيع الفراخ هضمها كما تهضم طور اليرقات لهذه الفراشات والتي تستطيع هضمها. وهذا يؤثر سلبياً على أعداد الفراخ المنتجة وبالتالي قلة أعدادها.
ما إن أنهيت حديثي عن هذه الطيور حتى توقف أبو سالم عن المشي واستوقفني معه ليسألني: أتذكر يا أبا فيصل ما يتردد عن تأثر الطيور الخواضة التي تتكاثر بمناطق التندرا القطبية بسبب قلة الحشرات، نعم أذكر، فهذه النتائج بنيت على عدد من الدراسات استمرت لسنوات، ويأتي ملخصها بأنه مع حلول أشهر الصيف وذوبان الجليد وظهور الحشائش بتلك المنطقة تبدأ الحشرات بالتكاثر وتصل الطيور الخواضة لوضع البيض وحضانته فتوافق خروج الحشرات البالغة مع فقس بيض الطيور الخواضة مما يوفر كمية كبيرة من الحشرات للفراخ تسهم ببناء عظام وأجساد وريش هذه الفراخ لتتمكن من إتمام هجرتها لمناطقها الشتوية، فالفترة التي يختفي الجليد بمنطقة التكاثر تعد قصيرة جداً وتحتاج الطيور البالغة والصغيرة على لإكمال بناء متطلبات الهجرة وتخزين الغذاء الكافي للرحلة، كما أن الصغار تحتاج للغذاء ليصل نمو مناقيرها وأرجلها للطول المناسب للحصول على الغذاء المناسب لها.
لكن مع مشكلة التغير المناخي وذوبان الجليد أبكر مما كان عليه، أصبحت الطيور البالغة تصل لمناطق التكاثر في ذروة وفرة الحشرات، والبيض يفقس في أواخر موسم وفرة الحشرات مما يجعل الفراخ تتحصل على كميات أقل مما تحتاجه من الغذاء، مما يجعلها غير كاملة النمو، وهذا ما أشارت إليه تلك الدراسات بوجود فروقات بأطوال المناقير والسيقان والأجنحة للفراخ التي وصلت لمرحلة الطيران وهذا بالطبع سوف يؤثر على كمية الدهون التي ستخزن للهجرة، فهناك طيور مثل طائر القوق موشم الذيل (Limosa lapponica)، والذي سجل قطعه 13,560كم وذلك في طيران متواصل لمدة 11 يوم وساعة، وهذه القدرة تحتاج لكميات كبيرة من الدهون يقوم بتخزينها داخل جسمه، وتشير دراسة إلى أن هذه الطيور خلال هجرتها تفقد 40% من وزنها لقطع مسافات الهجرة، حتى أنها تقلص أحجام أعضائها الداخلية لتخزين الدهون والتي تستخدمها كوقود لتساعدها على استكمال رحلتها. ليس هذا فحسب بل إن طول المنقار مهم لهذه الطيور فقصره بسبب نقص الغذاء بمناطق التكاثر عما هو مطلوب للحصول على غذاء المناسب بالمناطق الطينية، قد يؤدي إلى عدم استكمال رحلتها وحتى لو أكملتها ستجد صعوبة في حصولها على غذائها بسبب قصر مناقيرها والتي لا تمكنها من الحصول على غذائها من اللافقاريات بالمناطق الطينية.
أسباب تناقص الحشرات والطيور
ما إن أنهيت حديثي حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء، كنا قد أكملنا الدورة الثالثة حول المسجد، وبدأت أجسادنا تفقد الماء نتيجة للمشي السريع الذي قمنا به، عندها توقفنا عن الحديث وأخذنا نردد مع المؤذن كما أمرنا رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، واتجهنا صوب مكان الوضوء لنستعد لأداء الصلاة.
بعد انتهاء الصلاة اتجهنا إلى سيارة أبي سالم المتوقفة بمواقف مخصصة بالمسجد وذلك ليوصلني لمكان وقوف سيارتي بمنطقة شهار، ومع حركة السيارة والاستمتاع بالنسمات العليلة ومعالم التطور والتغير في هذه المحافظة الجميلة والتي عشت فيها أجمل أيام حياتي، وما هي إلا لحظات حتى بادر أبو سالم بسؤاله عن أسباب تناقص الحشرات والطيور، نظرت إليه قائلاً: أتعلم يا ولدي، هناك أسباب عديدة أدت إلى تناقص الحشرات والطيور، فالحشرات مثلاً تأثرت بشكل كبير بالمبيدات الحشرية وهي أهم أسباب تناقصها، وأزيد على ذلك فإن تأثير هذه المبيدات على النظام البيئي والتنوع الأحيائي بالمنطقة كبير جداً، فالدراسات تشير إلى أن بعض أنواع المبيدات المستخدمة تبقى بالتربة لسنوات عديدة، مما قد يؤثر على الإنسان بشكل خاص، حيث وجدت بقايا من هذه المبيدات في المياه والتربة وحتى في عسل النحل. ولا يقتصر تأثر الحشرات على المبيدات الحشرية فهناك عوامل أخرى تؤثر على الحشرات مثل حرائق الغابات، والتصحر أو الجفاف، والأنواع الغازية، والتلوث، والتغير المناخي.
وفيما يتعلق بالطيور المهاجرة، فأسباب تناقصها عديدة ربما نضع الصيد الجائر وشبك الطيور على قمة هذه المؤثرات بمنطقتنا العربية، تليها المؤثرات الأخرى والتي منها نقص الغذاء المتمثل بالحشرات على قائمة هذه المؤثرات، وتدهور البيئات الناتج من العوامل البشرية منها ردم المناطق الساحلية والتي تلعب دوراً كبيراً بحياة الطيور المهاجرة المائية والبحرية، كذلك هناك التلوث بأشكاله المختلفة وأهمه في الوقت الحالي التلوث البلاستيكي الذي وجد حتى قوانص الطيور، ومن المهددات التي ظهرت أيضاً خلال السنوات الأخيرة والتي كان لها تأثير كبير على العديد من الأنواع، وهو الأمراض المعدية كأنفلونزا الطيور الذي جعل عددا من الأنواع ترتفع درجة التهديد بقائمة الأنواع الحمراء للاتحاد لعالمي لحماية الطبيعة (IUCN).
بالإضافة إلى ذلك هناك ما يعرف بحواجز الهجرة والتي هي من صنع الإنسان وهي عديدة وتشترك جميعها في أن خطرها في أماكن وضعها، فوجودها بمسارات الهجرة للطيور يشكل خطراً كبيراً. ومن هذه الحواجز خطوط الكهرباء، وهي من أكثر المهددات تأثيراً على الطيور حول العالم، وذلك إما بتصادمها مع خطوط الضغط العالي أو التكهرب بخطوط الضغط المتوسط، وتقدر دراسة قام بها ماندلفي (Manville 2005) بأن هناك من 4-50 مليون طائر تقتل سنوياً نتيجة تكهربها أو تصادمها بخطوط الكهرباء وأعمدة الاتصالات، كما أن دراسة عن الصقر الحر بمنغوليا أشارت أن هناك حوالي 4,000 صقر حر تموت جراء تكهربها بخطوط الكهرباء. وبالمملكة تم تسجيل عدد من الأنواع النافقة بسبب تصادمها أو تكهربها بخطوط الكهرباء، ومن أهم هذه الأنواع طائر الغاق السقطري التي تشير الدراسة بالمنطقة الشرقية، أن هناك أكثر من 900 طائر يموت سنوياً نتيجة تصادمها مع خطوط وأعمدة الكهرباء. ومن الحواجز الأخرى ما يعرف بالعمائر الزجاجية العالية والتي وضعت في مسارات الهجرة.
ومن المخاطر الأخرى على الطيور المهاجرة والمقيمة التسميم، والذي قضى على العديد من الطيور الكبيرة كالنسور والعقبان، وأكدت ذلك دراسة نشرت 2020م عن المخاطر على الطيور المحلقة أشارت أن التكهرب / الارتطام بخطوط الكهرباء، والتسميم بمنطقة الشرق الأوسط يعتبران من أهم المهددات ليس على الطيور الجارحة فقط ولكن حتى المفترسات من الثدييات كالنمر العربي والضباع والذئاب والثعالب، وللمعلومية فإن المفترسات والأنواع الرمية هي من أكبر المتأثرات بالسموم، ولو علمنا أن النمر العربي وهو من أندر الأنواع الفطرية بالمملكة لم تسجل الكاميرات الخفية والمسوحات البرية أية فرد من هذه النمور العربية، بالرغم أن التسميم سجل خمسة أفراد منها.
لم أنته من كلامي حتى أوقف أبو سالم سيارته بالقرب من سيارتي لتنتهي عندها رحلة قصصية علمية عن علاقة الطيور بالحشرات دونتها للمشاركة بها في هذا اليوم والذي يخرج فيه العالم للاحتفال بالطيور المهاجرة، داعياً الله العلي القدير أن ينفع بها الجميع، كما أدعوه سبحانه أن يحفظ بلدنا وقيادتنا ويديم علينا نعمة الأمن وأمان.
** **
مستشار بالمركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية - رئيس اللجنة العلمية باتفاقية الطيور المائية المهاجرة بين أوراسيا وأفريقيا، عضو اللجنة العلمية بمذكرة التفاهم للمحافظة على الطيور الجوارح المهاجرة بين أفريقيا وآسيا وأوروبا