د.عبدالله بن موسى الطاير
حرب في الشرق الأوسط تخاض بشتى أنواع الأسلحة، وحرب في أمريكا تدار بوسائل الإعلام كافة؛ قديمها وحديثها. لا ريب أنه صراع حقيقي أكثر منه تعبيداً للطريق إلى البيت الأبيض، فهدفه هزيمة أفكار وسياسات وتوجهات، وربما أبعد من ذلك. وعلى مرمى 21 يوماً تُخاض الحروب السياسية بين مرشحي الحزبين الجمهوري والديموقراطي في التضاريس الافتراضية لمشهد الإعلام الأمريكي، حيث ينخرط المتنافسان في صراع شديد المراس للسيطرة على انتباه الناخبين، وفي النهاية، إقناعهم بالتصويت.
هجوم متبادل لا هوادة فيه، ميدانه حواس ومشاعر وعقول الناخبين، بحر مسجور من المعلومات يغمر مساحات الوعي بقصد التجهيل، والتعمية، والتشتيت، والمهم في نهاية المطاف أن يدمر أحد المتنافسين خصمه بقصف مباشر من المسافة صفر بروايات متضاربة، ومحفزات عاطفية، ورهانات عالية المستوى على إبقاء الناخب مضطرباً ومطواعاً.
أظن أن الرئيس السابق دونالد ترامب، ونائب الرئيس كمالا هاريس يستخدمان آخر ما في ترسانتيهما من أسلحة معرفية بصرية كانت وسمعية من أجل الفوز بالبيت الأبيض. ومن يتابع مستوى الخطاب وسردياته في كلتا الطائفتين سيلاحظ حجم المبالغة والتضخيم واللا معقول يندفع في مسارين أحدهما لاقتناص أصوات جديدة كانت مترددة، والآخر لتشتيت انتباه أصوات راسخة الإيمان في مرشحها.
أحد أقوى الأسلحة في الترسانة الدعائية في الانتخابات الأمريكية هو الشحن المفرط بالمعلومات، إذ تغمر كل حملة مشهد الإعلام بسيل من الأخبار والروايات المتنافرة، مما يجعل من المستحيل تقريبًا الفصل بين الحقيقة والخيال. ادعاء حملة الرئيس السابق ترامب بأن إيران تسعى لاغتياله، وطلب مزيد من القطع العسكرية على الأرض وفي السماء، تبعث رسائل مشحونة بالعاطفة للأتباع الذي يقبلونها بدون تمحيص، وبذات الوقت تشتت انتباه حملة نائبة الرئيس التي يتلاعب بها فريق ترامب المحترف كيفما شاء من حرب الحدود الجنوبية لأمريكا إلى احتلال المهاجرين غير النظاميين القادمين من سجون العالم الثالث لأمريكا، وانتهاء بتحميل الديموقراطيين مسؤولية إعصار ميلتون.
يخلق هذا القصف المستمر من المعلومات ارتباكًا وإرهاقًا للطرفين، والأمر لا يتعلّق بالكمية فقط؛ بل يتعلّق بجودة المحتوى التي تستند إلى جملة من الشائعات والصور النمطية، واللعب على وتر الغرائز، وخلق عوامل تشتيت بالهيمنة على دورة الأخبار، لصرف الانتباه عن نقاط الضعف الحقيقية ليس في برنامجي المرشحين وإنما في سماتهما الشخصية أيضاً. الحملتان تستغلان مشاعر الأمريكيين ببراعة، فالمرشحان يثيران الغضب بالخطابات الملتهبة والتكتيكات المثيرة للانقسام، ويتكئون بشدة على المخاوف والتحيزات، ويسرفون في تشظية المجتمع الأمريكي إلى فسطاطين: نحن، وهم، في انقسام حاد يغلق جميع المسام في وجه الخطاب العقلاني، ويفسح المجال للألوان الزاهية، والمقاطع والمشاهد السريعة، والقصص المثيرة التي تحفز الغرائز البدائية، مما يجعل من المستحيل على المستهدفين النظر إلى أبعد مما يريدهم المرسل أن يشاهدوه.
تجتهد حملتا المرشحين الجمهوري والديموقراطية في نشر مواد هدفها اغتيال الشخصية، والتشهير، مصممة لتشويه سمعة الطرف المقابل، وزرع بذور الشك في أذهان الناخبين. وتنشط سهام التنمر الإلكتروني والمضايقات عبر شبكات التواصل الاجتماعي لإسكات الأصوات المعارضة، مما يخلق تأثيرًا مخيفًا يخنق المناقشة الصحيحة المفتوحة، مما يهيئ بيئة لانتشار المعلومات المضللة، حيث تعمل الروبوتات والحسابات المزيّفة على تضخيم الروايات الكاذبة والتلاعب بالرأي العام.
أعتقد أن العوامل جميعها تلعب لصالح الرئيس السابق، فقد استطاع كسب ميدان شبكات التواصل الاجتماعي، حيث غاب حراس البوابات، مما جعله يسرح ويمرح كيفما شاء في تسجيل أهدافه التي يصنعها له لاعب الوسط المستعر حماساً للانتقام من الديموقراطيين، فإيلون ماسك دخل حلبة الصراع بسلاح X وهو يحمل بين أضلعه لهيب ثأر لا يبرد ضد اليسار الليبرالي. وإذا كانت الأرض تلعب لترامب، فإن الظروف العالمية تعطيه ميزة إضافية باعتباره رجلاً قادراً على تهدئة المخاوف وتوفير الحماية للأمريكيين الذين قد لا يفضّلون القفز في المجهول لأول مرة خلف امرأة ملونة ومهاجرة تقودهم في بحر لجي من المخاوف العالمية.