رمضان جريدي العنزي
في الليل أجلس بمحاذاة النافذة، أرمق الطريق المزدحم بالضجيج والناس والمركبات العابرة، أنوار الشارع خافتة بالكاد تضيء، الطقس لطيف، والهواء عليل، يدخل بلطف مسامات الجسد، ويمنح العين الخدر والنفس شعوراً مغايراً لا يمكن وصفه، المراكب الصغيرة بأضوائها الواهنة تعبر النهر الخالد بحركة هادئة، والمنارات تضيء للعابرات من العبارات الكبيرة، صور شتى تتشكل أمام العين كأنها لوحة ذات ألوان متنافرة، أو رواية فصولها متباينة، أو حكاية عارضة، في الصباح الباكر قلت سأدلف إلى القرية الريفية في الجزيرة المقابلة، لأزيح عن وجهي ستار الملل، وعن نفسي دثار السأم، ولأعيد لروحي صهيلها، مشيت بين الأزقة الترابية الضيقة، وشاهدت الوجوه الريفية الطيبة المتعبة، والبساطة بكل تفاصيلها، أداعب سنابل القمح والذرة، وأشجار الخوخ والدراق والمشمش، أرقب المارة، وأسمع صوت الباعة، وأرهف سمعي لصوت المؤذن حين يتلو النداء في وقت الظهيرة، أحاول أن استخلص من الأشياء خلاصة الأشياء، جبت القرية الهادئة مشياَ على الأقدام، أريد أن أحيا مناظرها البانورامية، وأن أغسل نفسي بتفاصيلها الطبيعة البسيطة، أدرت وجهي نحو صوت الفلاح وهو يغني لكي يسلي نفسه، أشار إلي بالقدوم، تحادثت معه، وأخبرني بتفاصيل حياته المتعبة، وكيف تكون خيوط المطر حين يجيء المطر، امتزجنا بخليط من السراب والحلم والواقع، انشغلنا ببعضنا حتى نسينا التثاؤب، الرياح اللطيفة تهب علينا، والأشجار ترقص وتهتز وتنود، والياسمين يصنع في أرواحنا النشوة، ابتهجت كثيرًا بالناس والطرقات الترابية والدكاكين الصغيرة، وقطاف التوت والعنب، ورائحة الفل، لا شيء مثل الفرح، سددت به بعض ثقوب الوجع.
استوقفني مشهد رجل كهل يحمل بضاعته ببطن سلة مصنوعة من سعف النخيل، ينادي على بضاعته، مموسقًا صوتًا عذبًا، يدخل الطمأنينة على الروح، قال لي: أفكر بشراء أربع بقرات سمان، لهن ضروع نازة بحليب دسم، وضلوعهن ملابد لحم عظيم، بقرات لا يشبهن بقرًا، لكن ما عندي حيلة ولا قوة سوى الحلم، كلامه وقع علي مثَّل نصًّا جديدًا، أو معزوفة حزينة، في البعد المقابل صوت غناء يأتي من بعيد، ربما فرح أو شيء من هذا القبيل، في الطرقات الترابية يلوح لك العابرون بالتحية، ويبادرونك بالسلام.
لم أشبع من تفاصيل هذه القرية الريفة ولم أنضب من ماء السرد والمسرود، دلفت الطرقات، والممرات الضيقة، وولجت الدروب، كل قناعاتي كانت منصبة في إراحة العقل والقلب وجلب السرور، كنت هكذا في كل حين، أقتنص لحظة الفرح، أو هي تقنصني، أكسر ساق المنصوب، وأرقع يد الساكن، أنام الليلة الليلاء على مثلها، وأحلم وأصحو بحلم فاخر، عشت الدهشة والحيوية والمرح، يممت وجهي شطر المرح، وصوب العافية، أخفض جناح الحب، وأقيم متكأ له، مؤانسة وسعدًا، كنت قد وقعت عليهما كما لو كانا كنزًا من الكنوز الثمينة، فيا لها من متعة ثمينة ومرقاة، مثل حقول مزروعة من دهشة مغايرة، وصور فريدة.