د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
كنتُ خارجًا من إدارة شؤون الاختبارات في المعهد العالي للقضاء بعد نهاية فصل دراسي مسلِّمًا كشف الدرجات وكراس الإجابات، وعند المصعد وجدتُ الشيخ الأستاذ الدكتور الوقور سعد بن عمر الخراشي حفظه الله، فقال لي: الشيخ محمد المفدى يسأل عنك؟ فقلت: عني! قال: نعم، بل يريد التواصل معك! فقلت: الشيخ الدكتور اللغوي محمد المفدى؟! قال: نعم، وهو رأس اللغويين في هذا الزمان، وعالم متأله.
فقلت: أنا أريد التعرف عليه منذ زمن! فتفضل عليَّ -رحم الله والديك- برقمه، فبعثه إليَّ برسالة.
خرجتُ من الجامعة، وأنا أقلب الأمر، كيف وفق الله من أُريد التعرف عليه والبحث عنه، إن كان يريد التواصل معي!
وفي الطريق اتصلتُ بالرقم، فأجاب ورحب وسهّل، فقلت: معكم من كان يبحث عنكم، فلما سمع اسمي ازداد ترحيبه رحمه الله، وقال: يا شيخ محمد منذ مدة أريد التواصل معك، هل تعلم من حثني على ذلك؟ وأخبرني عنك، وأثني عليك، فقلت: جزاه الله عني خيرًا لقد أحسن إليَّ وإن لم أعرفه، فقال: أبوعزام الدكتور محمد الشويعر، فقلت: ما أكثر فضائله، وأحلى معارفه.
ثم قلت: يا شيخنا لقد أكرمتني بسؤالكم، فتفضل عليَّ بلقائكم، فقال: الله يحييك في أي وقت، وعندي جلسة بعد صلاة المغرب كل يوم أحد.
ألقى إليَّ بالدلالة إلى منزله، فعمدت إلى المسجد الذي بجواره مغرب يوم أحد، فلما أذَّن المؤذن إذا بعربة قد جلس عليها رجل وقور توقفتْ عند الباب الداخلي ثم قام يمشي الهوينى، يُقاد حتى قام خلف موضع الإمام سرني منظره، ولطيف محياه، وجمال لباسه، كأن في وجهه نورًا ينبعث منه، رمى بكلام إلى المؤذن ضحك منه المُرمَى إليه ومن بجواره، لم أُميز الكلام!
بعد الصلاة رصدته عند الباب خارج المسجد، فسلمت فابتسم، وقال: أجدت في الصلاة معنا؛ لندرك الوقت من أوله، تفضل مع الباب الشرقي لهذا المنزل، وأشار بيده، يممت وجهي إلى بابه، ودخلت إلى مجلسه فأجلسني بجانبه، بدأ الحديث وزان، وجمالُ الأخبار في حسن إيرادها وانتقائها، فلا تسل عن عالم لغوي يتحدث!
سمعت من الدكتور المفدى عجبًا، ورأيت إيهابًا ملئ علمًا وعقلًا، مع ذكاء فائق، وعلو لفظ، وجمال منطق، وملاحظة دقيقة، وطلاوة حديث، ورطوبة الفُكاهة، ورقة الدعابة، وذكرى حسنة.
الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ لَكَ الظَّنَّ
كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
كان ذا تجارب كثيرة، لك أن تعجب من صبره على التعلم في الكتاتيب بل التعنت في إدخاله فيها أول أمره وبداية صباه، فقد كان يجلس بجوار كوة الدرس؛ ليسمع ما يُلقى على الطلاب، طال الزمان، وعُمِّر هذا الغلام حتى غَدا مرجعاً في فنه، متقناً لتخصصه، مدركاً لدقائقه، خاض الدنيا عصامياً، مرت به الحوادث، وحَلَبَ من زمانه ما حلب، وكثرتْ عليه التجارب.
حلبتُ خُلُوفَ الدهر كهلاً ويافعًا
وجَرَّبْتُ حتى أحكمتني التجاربُ
تولى رئاسة قسم النحو والصرف بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أشرف على رسائل في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وشارك في مناقشة عدد منها، أمضى عقوداً في تعليم الأجيال لغة القرآن والسنة.
حقق كتاب «تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد» المشهور «بشرح التسهيل»، لمحمد بدر الدين بن أبي بكر بن عمر الدماميني، في ثمانية أجزاء، أربعة أجزاء منها لنيل درجة الدكتوراه، ثم أكمل الباقي تباعًا.
وحقق غيره، وألَّف بعض المؤلفات، كتأليفه كتاباً عن (ما) وسماه (حديث «ما» أقسامها وأحكامها)، ونشر بحوثًا ومقالات، منها: (دفاع عن مناهج النحويين القُدماء).
أول ما سمعتُ عن الشيخ محمد رحمه الله كان خبرًا من شيخنا سعد الحصين رحمه الله، حين تحدث عن الاهتمام باللغة العربية، وأن العجمة والجهالة في اللسان العربي دخلت على ألسنة كثير من طلاب العلم فضلاً عن غيرهم حتى صرنا نسمع من الخطيب والواعظ والمتحدث (نحن كمسلمين)!! (نحن كمتعلمين)! ويسميها الشيخ سعد (كاف الصحفيين) أو (كاف الصحافة)، وأن الشيخ محمد المفدى أراد أن يجمع عددًا من المجلات والصحف ليكتب كتاباً في «ما تلحن فيه الصحف»، يقول: فلما اقتنى عدداً واحداً رأى الاكتفاء به، إذ حوى على مراده وزيادة!! وشاركه غيره في هذا الكتاب.
ولما كتب الشيخ سعد رحمه الله مقالًا بعنوان (من حق الله ورسوله ودينه المحافظة على لغة القرآن والسنة) ذكر ما نصه:(ولنعرف الدَّرك الذي هوى إليه الجهل بالفصحى أذكر محاولةً لخير النَّحويين د. محمد المفدى لبيان أخطاء الجرائد فظنَّ أنَّه محتاج لأعداد كثيرة من كلِّ الجرائد والمجلات السعودية ليكتب كتاباً عن أخطاء الكتَّاب ومنهم الدَّكاترة لا العوام، ودُهِش عندما وجد أنَّ عدداً واحداً من جريدة واحدة ملَأتْ أخطاؤه كتابه دون حاجة إلى البحث في عدد آخر ولا جريدة أخرى، وقرأه أحد أعضاء هيئة كبار العلماء ممن يجمع بين الفقه والفكر والامتياز في معرفة قواعد اللغة العربيّة، فقال لي: كلما ذكره من أخطاء قد تعوَّدت الوقوع فيها حتى قرأت هذا الكتاب).
حدثني الشيخ المفدى رحمه الله عن قدومه إلى الرياض، ومكثه في حِلق العلم، خاصة في حلقة الشيخ عبداللطيف آل الشيخ رحمه الله، وقد درس فيها عليه النحو في «الآجرومية»، والفرائض في كتاب «الرحبية»، وحفظ جملة من المحفوظات تلك المدة ككتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وكشف الشبهات، للإمام المجدد محمد ابن عبدالوهاب رحمه الله، وحفظ ما شاء الله من كتاب «زاد المستقنع» في الفقه، و»بلوغ المرام» في أحاديث الأحكام، وغيرها من المحفوظات.
ثم أخبرني عن ذهابه إلى دار التوحيد في الطائف عام 1371هـ، وقال: كنتُ أريد أن أدرس في المدارس النظامية مع ما تيسر من حلق التعليم في المساجد، ولم يُفتح المعهد العلمي وقتها في الرياض، فيممتُ وجهي إلى دار التوحيد، ومكثت سنة وعدة أشهر هناك، وتعرَّفتُ على مجموعة من الطلبة القادمين للدراسة في دار التوحيد.
حدثني عن زميله في دار التوحيد الشيخ عبدالله الفالح رحمه الله من أهالي عنيزة، ومما أذكر أنه قال عنه: كان الشعر يجري على لسانه، وأظن أنه لو أراد أن يكون حديثه شعرًا لاستطاع، فهو يقول الشعر سليقة، فمرة خرج الفالح من باب وهو معنا في دار التوحيد، وإذا بأحد الطلاب يدخل مع الباب نفسه فكأنه فوجئ به، وكان الطالب فيه طول لافت للنظر، فرفع الفالح رأسه إليه، وقال من فوره:
له قدمان في الأرض استقرتْ
ورأس كاد ينتطحُ السحابا
والشيخ الفالح رحمه الله له أخبار وأشعار ذهب أكثرها، وكان حاضر التعليق، عطس أحدهم وكان صوت عُطاسه عالياً، فقال الفالح لمن معه: انظر هل طار رأسه من على كتفيه!!
وكان رحمه الله يتأخر في الوضوء، وكان يصلي مع الشيخ العلامة محمد ابن عيثمين رحمه الله بعد استقراره في عنيزة، ويضيق من فوت جزء من الصلاة، فيجعل اللوم على المؤذن والإمام، فيقول:
إذا العمري عجَّل في الأذان
وجاء الشيخ يعدو كالحصان
فلا تعجب إذا فاتت صلاة
تولى أمرها المستعجلان
عودًا على أستاذنا الدكتور محمد المفدى رحمه الله فبعد أن التحق بكلية اللغة العربية بالرياض، وتخرج فيها عام 1377هـ، وكان ترتيبه الأول بين زملائه، أخبرني أنه ذهب إلى مصر لنيل الماجستير ثم الدكتوراه، ومكث في دراسته وبحثه لنيل الدرجة أربع سنين، وأشرف عليه الأستاذ محمد رفعت، ودرسَّه آل سرحان في المملكة وفي مصر، وقال: أميزهم عبداللطيف ثقيل وعاقل رحمهم الله جميعاً.
سألته عن أكثر من أفاده علماً، فقال بلا تردد: أستاذي يوسف عمر رحمه الله، فتح الله لي على يديه صنبوراً من العلم.
وسألته عن بعض أدباء مصر، فأذكر مما قال: الرافعي يُعلِّم إنشاء الكلام، وطه حسين سهل الأسلوب.
انجر الحديث إلى خارج مصر إلى مارون عبود وغيره، فقال: كأنه مسلم في الداخل! ويشير إلى صدره، وهو نصراني في الشهرة، وكذا أحمد فارس الشدياق كأنه مسلم في داخله.
أقول: ومع تقلبات الشدياق في اعتناقاته، وما نشأ عليه فلم يدخل في الإسلام إلا بعد انتقاله إلى مصر فيما أعلم، وقيل: دخل الإسلام انتقاماً مما وقع على أخيه من اضطهاد الكنيسة له، وكما قيل: من أمثل الأشياء ترك الفضول، وعلى كل حال ليست مهتماً بموضوعه لولا أن شيخنا جاء بذكره، فربما ظن ظان أنه لم يدخل الإسلام، ورحم الله من مات على الإسلام.
جرى الحديث عن كتب الأدب، فقال: البيان والتبيُّن في المقدمة من الكتب الأربعة التي ذكرها ابن خلدون في مقولته المشهورة التي نقلها عن شيوخه:(أن أصول هذا الفن وأركانه: أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب: الكامل للمبرد، وكتاب: البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب: النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها).
وسألته عن كتابي العقد الفريد والأغاني، فقال: صاحب العقد الفريد منشئ، وصاحب الأغاني ناقل.
وسألته عن أفضل شروح الألفية؟ فقال: لا اعترف بالأفضل هكذا؛ إذ فيها بخس لغير المذكور؛ فكل شرح له فضل، لكن أقول: من أفضلها شرح ابن عقيل لسهولة العبارة، وكشف المراد.
وقال: قلَّ أن تجد كتبًا فيها زيادة عليه بل تكرار في جملتها، كما قال زهير ابن أبي سلمى:
ما أرانا نَقول إلا مُعارًا
أو مُعادًا من قَولِنا مَكْرورًا
ولما قيل له: عن العزوف عن تعلُّم اللغة العربية لصعوبتها!
أجاب بقوله: الذي يطلب علمًا يُحصِّله بإذن الله، وأما الذي لا يطلبه فكيف يحصله!
وقال: النحو والتصريف مفتاح العلوم الشرعية، كيف تفهم القرآن وتفسيره والحديث ومعانيه؟
ومما يلفت النظر في الشيخ محمد رحمه الله توقُّد ذكائه، وتوافر خبرته، وقوة شخصيته، وحزمه وصلابته، ودقة ملاحظته، وحسن منطقه.
جمالٌ وَآدابٌ وَخُلْقٌ موطَّأٌ
ولفظ إِذاَ ماَ شِئتِ أسمعك السِّحْرا
أتيته بزميل له قد درسا سوية في كلية اللغة العربية، وربما في المعهد العلمي وهو الشيخ عبدالعزيز بن أحمد السلمان ختم الله لي وله بخاتمة الخير، فرأيتُ وجه الشيخ المفدى يتهلل بِشْراً، فقد كان هذا اللقاء بعد سنوات طوال، فالتفت إلي قائلاً: لقد قلدتني قلادة بمجيئك بالشيخ عبدالعزيز.
سألته عن الشيخ الفرضي اللغوي عبدالعزيز بن سليمان الفريح المشهور في أشيقر بـ»مسامح»، فقال: أذكر درسه في المسجد، ووالده هو من لقبه بمسامح.
توفي الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن محمد المفدى صباح الأحد 12 من جمادى الأولى لعام 1445، وصلي عليه في مدينة الرياض بعد صلاة العصر من اليوم نفسه، ودُفن في مقبرة الشمال - الرياض، وكان مولده كما أخبرني نقلاً عن والده في عام 1350، عاش 95 سنة، أمضى عقوداً في تعليم اللغة والأدب، ألَّف وحقق، وتأمل ودقق، لم يثنه فقد بصره منذ صغره، عن الاستمرار والمثابرة في العلم والعمل.
وَلَيْسَ فَقْدُ إِمَامٍ عَالِمٍ عَلَمٍ
كَفَقْدِ مَنْ لَيْسَ ذَا عِلْمٍ وَلَا عَمَلِ
وهكذا طويت صفحات من العلم والأدب والخبرة والثبات والحزم مع الشيخ الدكتور محمد بن عبدالرحمن المفدى، فرحمه الله رحمة واسعة وأخلف على المسلمين خيرًا و»إنا لله وإنا إليه راجعون».
سلام على ذاك الجبين ورحمة
على شخصك المدفون في ذلك القبر
** **
- عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للقضاء