علي الخزيم
= وتجد بكتب العرب الأقدمين حديثاً يكاد يجزم أن لبعض مشاهير الشعر بزمنهم وما قبله قُرناء من الجِن كان لهم أثر بَيّن بتلقينهم مفاتح القصيد وانتقاء جَزل الجُمَل والمفردات وحُسن السَّبك والربط، وكنت (بالجزء الأول) قد ربطت بين ما تتحدث عنه كُتبنا العربية آنفة الذِّكر أعلاه بهذا الشأن؛ وبين ما يُسمَّى الأسطورة ولكن بمفهومها المُبَسّط عند العرب وتوظيفهم للقصيد والقَصَص لنشرها لأغراض متعددة ضمن الثقافة الاجتماعية السائدة.
= وضَمَّت الكتب اعتراف (أو زعم) شعراء باتصالهم بالجن المُلقنِين لرصين الشعر؛ بل أن كثيراً منهم قد أفصح عن اسم قرينه الذي كان سبباً ومُعيناً لانتصاره على خصومه المُبارزين بميادين الشعر، ولعل من أشهرهم بهذا الصدد وأعظمهم شأناً (مسحل) هاجس الشاعر الكبير صنَّاجة العرب أعشى قيس الذي قال عنه بعض النقاد بأنه قد فاق معاصريه أو منافسيه بالشعر بالغزل والمديح والهجاء؛ وأن له أقوالاً بالشجاعة لافتة، وكيف لا ينشأ هذا الإبداع من شاعر المعلقات!
= فالأعشى من أصحاب المعلقات وهو ميمون بن قيس ولقب بالأعشى: أي ضعيف البصر ليلاً؛ وبصنَّاجة العرب: وهو متعلق بالحُداء وحُسن الصوت، وهو من مشاهير وكبار الشعراء بعصر ما قبل الإسلام، ولد في (منفوحة) وهي الآن حي من أحياء العاصمة السعودية الرياض، ومِمَّن قال من الشعراء كذلك إنه يستعين بالجن جرير بن عطية التميمي؛ والفرزدق همَّام بن غالب، وبشار بن برد رغم إنه كفيف، ومن الطرائف ما نُسب إلى أبي نواس بأنه كان يستعين بإبليس بنظم الشعر؛ وأورد الرواة أبياتاً له للدلالة على ذلك تتضمن مفردات تناسب سيرته.
= هنا ينشأ لدي تساؤل يمكن الإجابة عليه من فحوى مزاعم تُقال حول إلهام جِن وادي عبقر لبعض الشعراء أو عامتهم حين يصادف مَبيتهم على ضفاف الوادي: فهل كان أولئك الجن هناك لا هَمّ لهم سوى قدوم نفر من الإنس إلى مواقعهم ليبادروا لإلهامهم أفخم الشعر بأحسن قوافيه ومعانيه؟! إذاً لربما كان ثمن المِتر من أرض عبقر بذاك الوقت يفوق سعره الآن بمدينة الرياض! ثم هل يمكن أن نُعيد صنوف الإبداع بمجالات أخرى إلى الجن كمهارات (سالم الدوسري) وآخرين بكرة القدم!
= وبنظرة واقعية تجد أن أولئك الشعراء ربما انتقصوا ذواتهم وإبداعهم بنسبته للجن لإضفاء الإبهار على نتاجهم؛ ثم سايرتهم وَصدَّقتهم فئات من مجتمعاتهم لم تتعمَّق لديها الفكرة، وقد تساءل الوزير الشاعر غازي القصيبي بأحد كتبه:( هل كان الشعراء الجاهليون ضحية هستيريا جماعية جعلتهم يتصوّرون ما تصوّروه عن أصحابهم؛ هل كان بعضهم بالفعل لأسباب نفسية وعقلية يتحدث مع أشباح)؟!
= ومن تلك الروايات يتضح أن قدماء العرب بفلواتهم وترحالهم يتمتعون بنوع نادر من التسلية بهذا الخيال المُحلّق مع الجن وشعرهم وحكاياتهم! ويلاحظ من سردهم أن الجني المُلقّن يكون أحياناً هو الضَّيف؛ ولا يحظر إلا إذا أوقد الشاعر ناره للشّواء والسَّمَر؛ فجِنّهم ذَوِي مزاج عالٍ، وأتساءل بتعجب: لماذا لا نشاهد مثل أولئك الجن الظرفاء الآن؟ فلعلهم وجدوا من الإنس ما يُغني عن حضورهم فابتعدوا.