نوف بنت محمد بن فهد الثنيان
بجوار الباب المطل على شارع عمومي..
يقف بين الماضي السعيد والحاضر الغائب عنه.. رجلٌ كبيرٌ.. لم يبق برأسه غير هاجس مهجور، وذاكرة معلّقة على مرآة المدخل.. لا يملك من حطام الأحلام إلاّ ورقة كبيرة تحمل رقم هاتف بيتهم القديم..
يتقصّى ظلال النساء.. ويتوجّس العطر في الريح القادمة من العباءات العابرة.. وكلّما عبرت الشارع سيّارة معتمة الأبواب الخلفية.. لوّح بورقته إليها.. علِمت بأمره الجهات المعنية.. أعادته إلى الداخل.. فبقي بدار المسنّين حتى مات..!
قصة حقيقية اختزلتُها بنص قصير.. سبق أن طرحتها في إحدى مجموعاتي القصصية.. تدعو للتأمل.. فكل التجارب التي يمرّ بها الإنسان منذ صغره حتى بلوغه سن الرشد يختزلها في اللاوعي لكنها تؤثر على أفكاره ومبادئه وأخلاقياته وأقواله وأفعاله وعاداته اليومية، سواء بالسلب أو الإيجاب حتى تصبح ديدن حياة.. وسبق أن شاهدنا فيديوهات متداولة عن مصابين بالزهايمر مسنيّن صالحين مرضى على أسرّتهم البيضاء يؤذنون ويتخيلون وضعية الوضوء ثم إقامة الصلاة ويقرؤون القرآن ويسبحون ويهللّون على أصابعهم.. ورأينا غيرهم من الذين يستحضرون في الأذهان قصص أحبابهم الذين رحلوا في ذمة الله ومناداتهم بأسمائهم معظم الوقت لانفصالهم عن الوقت والواقع..
وبالقياس على ذلك وبحسب جدلية الخير والشر في الحياة هناك أشخاص قضوا حياتهم عبثا، ثم سلكوا دروب الحياة بمخزون من تجارب وعادات سيئة ومخجلة تتعارض مع الفضائل والقيم والأخلاق والمبادئ السامية.. وبالتالي سنتوقع منهم جزماً أقوالا وسلوكيات غير سوية كانعكاس للماضي المشين.. وتظهر جلية حين تداهمهم أمراض كتلك الحالات المحزنة أو أمراض تصيب العقل عافاهم الله وعافانا كاضطراب ثنائي القطب المرتبط بالصحة العقلية، والتقلّبات المزاجية المفرطة التي تصل أحياناً إلى درجة نوبات من الهوس أو الهوس الخفيف أو الاكتئاب المتفاوت في حدته ودرجاته بين شخص وآخر.. وهو اضطراب مزمن يتم تشخيصه في فترات الشباب ويصاحب المصاب ويجبره على اتباع خطة علاج مدى الحياة.. وقد تم تصنيف ثنائي القطب إلى نوعين: الأول اضطراب وجداني يمر به الشخص بنوبة هوس، والثاني اضطراب وجداني يمر به المصاب بنوبة اكتئاب شديدة بالإضافة إلى نوبة هوس خفيفة، والعوامل التي تزيد من خطر الإصابة به قد يكون وراثياً، أو حدثا صادما يتأثر منه فيتجسّد باعتلالات جسدية ونفسية حادة وخطيرة.. ويعقدّها الإفراط في تناول المخدرات والكحول خاصة عندما يتأرجح المزاج بتقلّبات سريعة عاطفية ومزاجية من نوبات اكتئاب إلى نوبات من الهوس.. فيتذبذب بين الابتهاج المتجاوز للحد الطبيعي وتضاؤل شعور الحاجة للنوم وطاقة نشطة وسرعة غضب قد تؤثر على كل شؤون حياته سلباً من خلال إثارة مشاكل خاصة به مهنية واجتماعية أو مالية أو قانونية، وذلك أثر قرارات عشوائية وارتكاب أعمال وأقوال جائرة غير مسؤولة تدمّر علاقاته بالآخرين.. ولارتباط حالة الهوس أحياناً في بعض الحالات بالذهان الذي يعرّف علمياً بأنه ( اضطراب نفسي يسبّب أشكالاً شاذة من التصور والتفكير إذ يتصور المصاب الواقع أو يفسره بطريقة مختلفة عن الناس من حوله، ويمكن أن يعاني مريض الذهان من الهلاوس، أو الأوهام، أو التفكير غير المنظم، الأمر الذي يمكن أن يؤثر على أفكاره وسلوكه) ويمكن أن يرتبط أيضاً بجنون العظمة أو بما يسمى جنون الارتياب وهو مرض عقلي صرف يجعله في حالة انفصال عن الواقع وأوهام تنتج عنها قلق وخوف وشعور بالتآمر عليه والشك في دوافع كل من حوله وعدم الوثوق بهم، حتى تتحول مع الوقت إلى قناعات راسخة غير منطقية في ذهن المريض بل ويجزم أنها حقيقة وأيضاً تتضخم لديه ثقة مفرطة بأنه شخصية عبقرية تاريخية وأسطورة لا تتكرر إلاّ مرّة واحدة فكل زمان، وإنه إنسان خارق للعادة ويمعن في التعزيز الكاذب لنفسه ليعيش وحده وهم الإنجازات البطولية التي يعتقد محتقناً وناقماً على من حوله أنه لم يتم تقديره عليها في السابق، لذلك في ذهنه أن الجميع يضطهدونه ويكرهونه، فيتولّد الحقد في نفسه ويكبر حتى يصل إلى عدم التوازن والتهوّر والرغبة في الانتقام، إلى حد أن البعض منهم تتلوث ألسنتهم بالخوض في أعراض الشرفاء كلما اشتد السواد في قلوبهم افتراء وجوراً وظلماً؛ مُنتهزين كل فرصة تسنح لهم بتحجيم شأن وعقول وإنجازات الآخرين وإنكار فضلهم لهثاً خلف انتقام يعيشونه وحدهم في عالم قصصه أغرب من الخيال، واختلاق سيناريوهات توصلهم لمآربهم العدوانية الشديدة وبردود فعل وسلوكيات عنيفة جداً تجاه المحيطين بهم؛ مما يشكّل خطراً على أنفسهم والآخرين، تتطلّب التدخل عاجلاً لإدارة الحالة في مستشفى الأمراض النفسية للتشخيص السليم طواعية أو إجباراً بسبب تداخل تلك الاضطرابات والاعتلالات التي تسبّب ذلك الهوس وتقييم الحالة باختبارات نفسية وسريرية، وفحص الحالة العقلية للمُصابين من أجل المساعدة في تلقّي العلاج المناسب.. وكلما كان التدخل مبكراً، يسهم ذلك في إبطاء تطور الاختلال والهلوسة..
وبينما لم يُكتشف بعد حسماً السبب الرئيسي لاضطراب ثنائي القطب ورغم زخم الأبحاث العلمية الخاصة به.. إلاّ أنه جدير بالذكر.. أنه من خلال بعض مشاهداتي الخاصة لبعض المصابين وبرغم مرورهم بحالة الاكتئاب والحزن أحياناً وبأعراض مختلفة ومتفاوتة عن الحالة السابقة، إلاّ أني وجدتهم أقرب إلى الشخص الطبيعي وأكثر هدوءاً وسلاماً ولطفاً وأريحية في التعامل واندماجاً مع المجتمع وأكثر رضا وإقبالاً على الحياة وتأقلماً مع الأعراض وتقبّلهم لحالتهم وحرصهم الشديد على الاستمرار بالعلاج.. والحقيقة أن المرء أياً كان، هو ركام ثقافة خاصة وتربية خاصة وبيئة خاصة وصحبة خاصة تنعكس عليه في كل تحولاته النفسية على مدى سنواته، وكثير منّا يقع أسيراً لعقدة طفولية ما.. ومع هذا المرض النفسي الذي يُفقد القدرة على التحكم بالانفعالات والموروث النفسي تنعكس كل تلك الثقافة والتربية لأن من شب على أمرٍ شاب عليه إن كان خيرا فخير وإن كان شرّا فشر.. وقانا الله وإياكم شرور هذه الحياة ومكائد الأشرار فيها.
إضاءة:
«إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ
وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّمِ
وَعادى مُحِبّيهِ بِقَولِ عُداتِهِ
وَأَصبَحَ في لَيلٍ مِنَ الشَكِّ مُظلِمِ»
- (أبو الطيب المتنبي)