رقية نبيل عبيد
واحدة من أكثر مخاوف طفولتي رعبًا بالنسبة لي هي ما يوجد تحت السرير، تحت الأريكة، حتى اليوم ما زلت لا أستطيع ترك قدميّ تتجاوزان حافة السرير لتبقيا مدلاتين فوق ظلمات لا أدري ماذا يختبئ فيها! حتى اليوم أحرص أن يغطي اللحاف قدميّ جيدًا، عندي شعور أن الوحش بالأسفل قد يراهما معلقتين هناك تغريانه! أنه يفكر بجشع هل يسحبهما هذه المرة أم يكتفي بمراقبتهما كالمعتاد!!، خوف طفولي أخرق لا يزال يلازمني وقد تكون هذه المرة الأولى التي أتحدث فيها عن هذا الجنون بصوت عالٍ! عندما أقرأ لستيفين كينج تعود إلي كل مخاوفي الطفولية البلهاء دفعة واحدة، وهذا أكثرها حدة، بقيت لوقت طويل بعد روايته البريق أتخيل الفندق البارد المظلم المسكون في ظلمة الغرفة قبل أن يبتلعني النوم، تحترق شرفاته العالية أمام شبكية عينيّ، أرى داني الطفل الصغير ذا الخمسة أعوام وحيدًا مختبئًا في إحدى غرف الجناح الغربي، قدماه تغوصان في السجاد الفاخر السميك، فيما جثث الأموات ترمقه هازئة وتسبح السيدة ذات الرداء البنفسجي ميتة في بانيو الحمام، أسمع صوت المضرب يخبط الجدران والأثاث ويشق الهواء بصوت فظيع فيما يؤرجحه الرجل القادم، الرجل الذي يبحث بصبر قليل، ويزعق بصوت عالٍ، ويتلهف العثور عليه! اليوم لا أقرأ رواية رعب لملك الرعب، لا، اليوم أقرأ رواية هي عبارة عن خليط ستيفين المفضل الدراما والأمور الخارقة العجائبية المتصلة بالأرواح والاستبصار والقدرات الذهنية الحادة، والذي يفعله ستيفين كينج هو أنه يقرب لك هذه الأمور، يحيلها واقعية جدًا حتى لا تعود غير مصدقة إلى هذا الحد! بل الحقيقة أنها تمسي واقعية تمامًا، ويساعدك في هذا أن الشخصيات محل القصة تشاركك تعجبك واندهاشك ورعبك.
اغمضْ عينيك وتخيل أن تصيبك فجأة حادثة، وعلى إثر هذه الحادثة امتلكت قدرة عجائبية خارقة، الآن يمكنك أن تلمس أي شيء، أي شخص فيظهر لك ماضيه ومستقبله، ما كان وما سيكون.
دموعه وموته، والأهم لطفه وخبثه، كيف ستختلف حياتك؟! كيف سيتصرف من حولك؟! أقرب الناس إليك وأبعدهم، هكذا يفكر ستيفن كينج بتأمل قبل أن يرفع قلمه ويبدأ الكتابة.
المنطقة الميتة واحدة من رواياته التي لا يلعب فيها الخوف دورًا كبيرًا، وعلى النقيض من ذلك تجد فيها الحزن والشتاء وصباحات خريفية تُلاعب فيها الرياح أورق شجر صفراء، فيها بلدة ماين المشرقة البسيطة والذكريات المريرة والحب المفقود ونزوع الروح إلى أشياء لن تكون، وأمنيات لن تُحقق، وأمطار ما كُتب لها أن تهطل.
جوني سميث يحب سارة، شاب متخرج حديثًا ويدرّس في مدرسة البلدة الصغيرة، ودون أن يبذل أي جهد يحبه كل تلامذته تقريبًا، يمتاز بابتسامة لطيفة تضيء وجهه، في نهاية ليلة منعشة برفقة سارة وبعد أن يودعها تنقلب عربة الأجرة بجوني ويدخل في غيبوبة لخمسة أعوام، حين يستيقظ يتغير كل شيء، حين يستيقظ يدرك قدرته التي وُهبت له، هكذا يلمس كتف الطبيب فيخبره أن والدته لم تتوفَّ في الحرب وأنها على قيد الحياة، يذهب إلى مسارح الجريمة ويختبر كل المشاعر التي انتابت القتلة حتى أدق شعيْرة فيها، ويشعر بأعناق الضحايا تنضغط وتلتوي تحت راحة يديه، يعانق تلميذه لتتراءى له صفوفًا من الجثث المتفحمة، ورائحة اللحم المحترق تزكم أنفه، يصافح سياسيًا فيرى صورًا رهيبة وأفواجًا شائهة ميتة تحدق فيه! جوني علم أنه ليس هنا لوقت طويل، ماذا لو عاينت صعود وحش ما من التاريخ، رجل تسبب في مقتل الملايين، هل ستوقفه؟ هل ستقتله؟ هل ستدير ظهرك أم تفعل شيئًا؟! نعم، كما فعل ستيفين كينج في المِيل الأخضر كذلك صاغ روايته هذه، حزينة لكن مشرقة، خفيفة بيد أنها جدّ ثقيلة على النفس، خيالية لكن واقعية، بسيطة وشديدة التعقيد في آن، ليستْ رعبًا غير أنها كفيلة بإرعابك حد أن تَقطّع أنفاسك، هكذا يعلمك ملك الرعب بلطف أن ليست الوحوش المختبئة أسفل السرير هي الأشد إرعابًا وإثارة للذعر بعد كل شيء.