خالد بن عبدالرحمن الذييب
التحكم بالكثافة إحدى القضايا الأساسية التي تناقش كواحدة من أهم الطرق لتحقيق التنمية المستدامة. ونظرا لمساوئ الانتشار الأفقي ومنها الاقتصادية نتيجة مد شبكات البنية التحتية، وما ينتج عنه من خلق كثافات غير مخططة ونمو القفز الضفدعي (Leap Frog Development) إضافة إلى الآثار البيئية الناتجة عن حركة المركبات في مختلف أنحاء المدينة فإن مفهوم التركز العمراني (التمدد العمودي) ظهر في أدبيات التنمية المستدامة، علما بأن الفكرة نفسها ليست جديدة، حيث إنها ظهرت عام 1592م عندما تم إعلان رسمي من قبل الملكة إليزابيث الأولى بوضع حدا للتطوير في مدينة لندن والاعتماد على التمدد العمودي. يسعى التركز العمراني لتشجيع الكثافات المرتفعة بديلا عن الكثافات المنخفضة مستفيدا من المساحات العمرانية والمرافق القائمة، وتسهيل التحرك داخل أرجاء المدينة من خلال تشجيع النقل العام بأشكاله المختلفة، وذلك بهدف حماية البيئة من التأثيرات السلبية لاستخدام السيارة الخاصة.
إلا أن ما يعيب هذا النوع من التخطيط هو تأثيره على إحساس الإنسان بالمكان، فشكل المدينة الذي يبدو متشابها في أنحاء العالم قديما إلا أنه لا يخفى على الكثير أن هناك اختلافا في مظهر المدن، فالمدينة اليونانية تختلف عن المدينة الرومانية، وكلاهما لا يشبهان المدينة العربية الإسلامية، فكل مدينة لها خصائصها ومميزاتها التي يمكن من خلالها معرفة هوية المدينة بالنظر إلى مخطط قديم لها. ولكن التركز العمراني في عناصره المتشابهة، المباني المرتفعة، ممرات المشاة، والمقاهي، يجعل المدن وكأنها نسخ مكررة من بعضها بأنماط عمرانية تكاد تكون نسخا ولصقا من بعضها البعض، ويبدو الوضع وكأنه استنساخ المثال والقيم الغربية ولصقها في الشرق.
فعندما نأخذ صورة لوسط مدينة ما في أمريكا الشمالية، ونقارنها مع وسط مدينة ما في شرق آسيا (الدول المتقدمة اقتصاديا تحديدا) فلا أعتقد أننا نستطيع أن نفرق بين المدينتين لأول وهلة، ولا ثاني وهلة، وربما ولا حتى ثالث وهلة، لأننا سنحتاج أكثر من وهلة لنميز بين المدينتين!. الهوية العمرانية للمدن تعتمد بشكل كبير على المقياس الإنساني أكثر من اعتمادها على شكل المدينة بأبراجها العالية.
لا شك أن التركز العمراني له إيجابيات كثيرة ليس هذا المجال لطرحها، ولكن الهدف هو التعامل معه ومحاولة إلقاء ضوء ولو كان يسيرا على فكرة التوازن بين التركز العمراني دون أن يؤثر ذلك على هوية المدينة الخاصة بها.
أخيرا...
التركز العمراني وسيلة لتحقيق التنمية المستدامة، دور السياسات والأنظمة العمرانية مهم للتعامل مع سلبياته والاستفادة من إيجابياته.
ما بعد أخيرا...
السياسات الضبابية التي تشجع الكثافة المرتفعة في حال تركها تطغى على المدينة ستؤدي من حيث لا نشعر إلى تآكل الهوية العمرانية للمدينة.