د. منى بنت علي الحمود
«ومن طاقة مبيت أمي أغني وانتي بتغني» بزغت روح هذه الكلمات من «صوت الأرض» لقص سردية حب عفيف في «الحارة» توج بالارتباط.. غير أن تأكيد كاتب كلمات الأغنية على مشهد الغناء المتبادل بين الحبيب ومحبوبته من «طاقة» غرفة أمه يحمل نوعاً من الموافقة الضمنية لأهله على مجريات هذا الحب من جهة، وعن تخفي ذات المحبوبة واستخدام وسيط للتواصل مع حبيبها هي لغة الأغنية.. وعلى بقعة أخرى من الأرض تقف «نجاة الصغيرة» على «الشباك» ويدها على خدها لا رفيق لها إلا شوقها لذلك المحبوب الذي تنتظره، وكأنها تقبع في لوحة «في انتظار عودة الصياد»، أو كأنها فتاة السواحل التي قد تسرق الأمواج حبها المنتظر.. ويبوح «البدر» بأمنيته: «متى الشوارع تجمع اثنين صدفه.. لا صار شباك المواعيد مجفي». عندما باح سد الشوق والعشق، ولم تعد النافذة تحتمل هذه العلاقة فأصبح الانكشاف أهون على الحبيب من الجفا.
وعلى بقعة مختلفة من الزمان تسكن فتاة صغيرة والتي كانت «الدريشة» تمثل طقساً من طقوسها اليومية.. ففي «عصرية» كل يوم ترتدي من أجمل ملابسها وتسرح خصلات شعرها الغزيرة المنسدلة على كتفيها الناعمين، وتجلس على حافة النافذة رافعة جسدها الصغير فوق «كنبة المجلس» معلنة صوتها الوجودي الذي يدعو لعلاقات آخرية متحفظة.. فليست النافذة كالباب. النافذة انفتاح مشروط بحفظ النكهات المختلفة والحدود الذاتية.. تعيش عراك أبناء «الحارة»، وتردد أهزوجة بائع الأقمشة والملابس المتجول «فرقنا فرجنا» وتراقص نظيراتها على «فتحي يا وردة».. هي ليست جزءاً من أي هذه المشاهد.. وليس لها سردية تذكر بين هؤلاء جميعاً.
أي حركة تصدر على النافذة هي دعوة وجودية للآخر ليرفع رأسه منقباً عن مصدرها.. وقد تبدأ علاقات الحب على مثل تلك النوافذ.. في عالمها لا يشرع للذكور النظر من النوافذ والحد الاقصى لهم هو «البلكونة».. ظهور الذكور من النافذة يعد منقصة إلا في حالتين ربكة قد تهدد أمن «الحارة» أو طارق للباب غير معروف.. هنا يأتي دور النافذة الأمني في الحماية فليست النافذة كالباب.. النافذة بعد زماني ومكاني بين الذات والآخر يمكن من التروي والأمان.. وتعد شرطة النوافذ المكسورة أبرز مثال على مكانة «الطاقة» الأمنية، حيث ظهرت نظرية تحمل هذا الاسم لسبر أغوار الجريمة والحد منها في المناطق الحضرية.. وتبلورت فكرتها عندما كسر الباحث احدى نوافذ سيارة في منطقة حضرية مما سرع في عملية سرقتها وتحولها لخردة بعد عدة أيام.. وهذا مما عزز فرضية الحد من الجرائم الخطيرة يبدأ من القضاء على الجرائم الصغيرة أولا «الكبائر تبدأ بالصغائر».
في «حزة العصرية» تختبئ الفتيات خلف الطفلات على ميعاد النافذة.. كذلك الحال عند حدوث أمر مهم في «الحارة» كالعروس و»الزفة» والمواكب والشجارات أو قدوم خاطب لهذ البيت.
النوافذ ارتباط وجودي بحركة أصوات المارة وروائح الشوارع والأزقة.. معزوفة أبواب المحلات.. وهذيان الضحكات غير المعروفة.. ضجيج من البهجة وإيقاع الإضاءات!!.. هي مجازفات البقاء ورفض الموت والتشبث بالحياة كالمحكوم الذي يرسم نافذته الخاصة على جدار أصم.. أو كنجمة الأماني التي يبوح لها طفل من نافذته سرا.. أو كمن يلقي بنفسه منها هربا بحياته.. كل هذا وذاك لكنك خارج المشهد، فكل ما تراه وتتأمله ما هو إلا محظ انكشاف على محتوى تفكيرك وخيالك.. فليست النافذة كالباب!!.