أ.د. محمد خير محمود البقاعي
أما الكتاب الذي لقي إشادة كثير من المؤرخين ومحبي التاريخ والمثقفين وعلى رأسهم سيدي ومولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود يحفظه الله فهو كتاب: «تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية»، من كتاب فيلكس مانجان Félix Mengin «تاريخ مصر في عهد محمد علي» بالتعاون مع أدم فرانسوا جوماز، 1823م Histoire de l› gypte sous le gouvernement de Mohammed-Aly (avec Joseph Agoub), Edme-François Jomard, 1823، دارة الملك عبد العزيز 1425هـ/2004م. لقد أصبح موضع استشهاد الباحثين والقراء ومن تنبؤاته التي كانت تقوم على تبصر وروية وحياد قوله وهو يرى الدرعية مهدمة بعد ما فعله إبراهيم باشا، معرباً عن توقعه عودة قيام الدولة السعودية: «ولكن ذلك البلد.. يضم في جنباته بذور الحرية والاستقلال، فما زالت المبادئ الدينية نفسها موجودة، وقد ظهرت منها بعض البوادر، ومع أن أسرة آل سعود قد تفرقت، ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء، فما زال هناك أساس خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد». فتحقق ما قاله عيانا. وقد سمعت صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل آل سعود يحفظه الله يستشهد بهذه المقولة في واحدة من مداخلاته البارعة. ومن الشهادات التي أفتخر بها ما قاله العلامة الرحالة محمد بن ناصر العبودي، (1345 - 1443ه/1926 - 2022م) رحمه الله في مجلس دار الثلوثية في معرض الرياض الدولي للكتاب عندما قدمني إليه المحامي والمثقف الكريم وصاحب دار الثلوثية الدكتور محمد بن عبد الله المشوح فأبدى اهتمامه بالكتاب وترجمته وامتدح مكانته بين كتب التاريخ وإنصافه السعوديين. توالت الأعمال بين كتب وبحوث بعد أن تنبهت إلى غياب المصادر الفرنسية التي أرخت للدولة السعودية في مراحلها الثلاث وهامشية ما استخدم منها مقارنة بالمصادر الإنجليزية، ولعل أكثر من اتسع في النقل عن المصادر الفرنسية هو الدكتور منير بن محمد علي العجلاني رحمه الله (1330هـ -1914م/1425 ه-2004م) في كتابه الموسوعي تاريخ البلاد العربية السعودية بمراحلها، وقد نقل لأول مرة عن المصادر الفرنسية مادة لم تتوافر لغيره لإتقانه اللغة الفرنسية. يقول الأستاذ صلاح الزامل في مقالته عنه في صحيفة الرياض: (كان اسم د. منير العجلاني -رحمه الله- منقوشاً في ذاكرتي منذ أن أحببت وتعلقت بالكتاب، قرأت كتابه عن تاريخ الدولة السعودية، تلكم السلسلة التيشتهر بها بين المؤرخين والباحثين والقراء في المملكة، وبعدما حل بهذه البلاد، أكرمته القيادة العليا وعينته مستشاراً بوزارة المعارف ثم تقاعد واستقر في مدينة الرياض حتى توفي). ولما علمت أن هناك نية إعادة نشر كتابه (تاريخ البلاد العربية السعودية) عرضت أن أعارض النقول عن المصادر الفرنسية بأصولها وأوثقها، ثم مرت الأيام ولم أتلق أي رد. ونقل الأستاذ الزامل عن د. فهد بن عبد الله السماري قوله عن د. العجلاني: «لا يكاد باحث أو مؤرخ يتناول تاريخ البلاد العربية السعودية في مرحلتها المبكرة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجري إلاّ ويرجع في الغالب إلى ما دونه د. العجلاني في عدة أجزاء عن تاريخ البلاد العربية السعودية، ففي تلك المؤلفات الكثير من المعلومات والتحليل التاريخي المستند إلى الأدلة والآراء التي يحتاج إليها الباحثون عموما»، صحيفة الرياض الجمعة والسبت 22-23 ذو الحجة 1445ه /28-29 يونيو 2024م.
ولعله من توفيق الله أن ييسر للمرء لقاء شخصيات تترك مواقفها المتزنة العلمية آثارها في مساره علما وخلقا، ومن هؤلاء الأساتذة الكبار الذين كان من حسن طالعي اللقاء بهم والركون إلى معارفهم وتواضعهم الأستاذ الدكتور عبد الله الصالح العثيمين (1355- 1436ه/ 1936- 2016م) رحمه الله؛ أستاذ التاريخ في جامعة الملك سعود، المؤرخ والشاعر والأمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية من عام1407هـ/1987م حتى عام 1436ه/2015م.
وكنت التقيت به أول مرة في مجلس علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله عام 1999م. واطلعت بعد ذلك على مؤلفاته وتحقيقاته وترجماته وشعره فوجدت بينها كتابا عنوانه: «كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب»، لمؤلف مجهول، الطبعة الثانية، الرياض، 1415هـ/1995م. ووجدت أن هناك تشابها بين نص الكتاب وبين ما جاء في نبذة عن الوهابيين كتبها القنصل الفرنسي في حلب وبغداد والبصرة، وهو الذي رسم أول خريطة للدرعية بحضور خطيب الإمام سعود بن عبد العزيز رحمهما الله، الدبلوماسي والمؤرخ جان - باتيست - لويس - جاك روسو Jean-Baptiste - Louis - Jacques Rousseau:
(1780-1831م) في كتابه «التذكرة في الطوائف الثلاث المشهورة في الإسلام: الوهابيون والنصيريون والإسماعيليون» الصادر في عام 1818م =
Mémoire sur les trois plus fameuse sectes du Musulmanisme, les Wahabis, les Nosairis et les Ismaélis, par M.R Correspondant de l›Institut Royal et Associé de l› Académie des Science, Belles-Lettres et Arts de Marseille, A Paris chez A. Nepveu, Libraire, passage des Panoramas N.o 26. Et à Marseille Chez MASVERT, libraire, sur le Port,1818
فكتبت عن ذلك التشابه مقالة في صفحة وراق الجزيرة بعنوان: «المصادر الفرنسية تبوح بأسرارها؛ مَنْ مؤلف كتاب: كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب؟» العدد 12169، 1426هـ/2006م. قلت في مطلعها: «ما تزال المصادر الأصيلة تكشف كل يوم معلومات جديدة عن تاريخ الدولة السعودية الأولى وخصوصاً ما كان منها بعيداً عن أعين الباحثين الذين اكتفوا لسبب أو لآخر بالإشارة إلى بعض تلك المصادر دون أن يطلعوا عليها فجاءت معلوماتهم عنها مجتزأة أو خاطئة في بعض الأحيان».
ثم اتسعت بالقول في بحث عنوانه: «مَنْ مؤلف كتاب: «كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب؟» مجلة الدارة، العدد 3، مجلد 33، 1427هـ/2017م. ثم نشرته في كتابي «أمشاج تاريخية» الذي نشرته دار جداول عام 2020م.
لقد كانت النبذة عن الوهابيين في كتاب روسو ترجمة لكتاب « كيف كان …» أنجزها روسو وذكر في النبذة اسم مؤلف الكتاب وسماه «سليمان النجدي» ولم أعرف حينئذ، على كثرة التسآل، المقصود بهذا الاسم. ويبدو أن البحث الذي أرسلته إلى مجلة الدارة الغراء أحيل للتحكيم إلى الدكتور العثيمين رحمه الله فأجازه ثم اتصل بي دون أن أعلم بذلك وطلب أن أزوره مساء أحد الأيام في مقر جائزة الملك فيصل العالمية، فذهبت بلا تردد وقد حملت معي النسخة الفرنسية من كتاب روسو والنسخة العربية من كتاب « كيف كان ….»، وحدثني بعد السلام والكلام أنه قرأ بحثي وهو يريد التثبت مما ذكرته عن نص الكتاب ونسبته، ناولته النسخة العربية وبدأت أقرأ النص بالفرنسية وأترجم وبعد حين قال رحمه الله: الكتاب هو هو! وعرضت عليه الموضع الذي ذكر فيه نسبة الكتاب إلى مؤلفه فاطمأن لِمَا رآه في بحثي، وامتد حديثنا إلى المصادر الفرنسية عن الدولة السعودية الأولى فشجعني على استقصاء ما كتب بالفرنسية وترجمته ودراسته فأخبرته أن دارة الملك عبد العزيز تقدم كل عون في هذا المجال واغتبط عندما ذكرت له ما في البحث من تصحيح لمعلومة ذكرها الدكتور العجلاني رحمه الله في حديثه عن كتاب روسو حينما قال: إن روسو في كتابه يقارن بين الوهابية والنصيرية واليزيديين، وهذا غير صحيح إذ ليس غرض الكتاب المقارنة التي لا وجه لها إنما هي نبذ مستقلة كتبها روسو ونشرها في أوقات متفرقة ثم جمعها في كتاب واحد. فسر وقال: تستحق الآن كأسا من الشاي (تلقيمة) ووضع الإبريق الصغير على السخانة الكهربائية ولما بدأت بالغليان أضاف السكر وبعد حين أضاف الشاي التي كانت في كيس محكم الإغلاق ثم رفع الإبريق عن السخان وقال: تحتاج بعض الوقت لتتخمر، وعقب هذه هي طقوس الشاي الحقيقية وضحكنا، ثم سكبها في أكواب متوسطة الحجم وناولني أحد الكأسين ودار الحديث عن حمص وجوها الجميل ومنتزهاتها الرائقة وأهلها الطيبين. كان الليل قد بدأ يرخي سدوله فاستأذنت بالانصراف على أن تكون لنا لقاءات أخرى. لقد مرت الأيام ولم أنس الكتّاب وكنت دائم البحث عن سليمان النجدي بحثا عن الحقيقة ووفاء لذكرى محقق الكتاب حتى أخبرني صديقي المؤرخ الفرنسي لويس بلان أن المقصود هو: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حفيد شيخ الإسلام الذي كان من أفاضل العلماء في التفسير والفقه ويعرف بسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب المُشرَّفي، الوهبالتميمي، النجدي موطنًا، الحنبلي مذهبًا، السلفي عقيدة ومنهجًا. فقيه وعالم بعلم الرجال ومفسر، ولد في الدرعية عام 1200هـ/1786م. كانت وفاته في سنة 1233هـ/1818م، عندما أحضره إبراهيم محمد علي باشا بعد أن وشى به «بغداديٌّ»، فأحضره الباشا بين يديه وجاء بالملاهي وأدوات الطرب والخمر لإغاظته، ثم أخرجه إلى المقبرة وأمر الجند أن يطلقوا عليه رصاص بنادقهم دفعة واحدة فأطلقوه عليه فمزق جسمه رحمه الله. كما أخبرني أن الباحث الإيطالي جيوفاني بوناسينا Giovanni Bonacina ذكر نسبة النبذة إليه في كتابه بالإنجليزية
The Wahhabis seen through European eyes (1772-1830) as deists and Puritans of Islam. Eu 2015.
وترجمة العنوان: «الوهابية في عيون الأوربيين (1772-1830) التوحيد وصلابة المعتقد في الإسلام، 2015 م.
ما يزال في الذاكرة ومضات نور أضاءت لي دروب التعلم والصداقة والزمالة في العلاقة مع أساتذة أعزاء من قسم التاريخ يأتي في مقدمتهم الدكتور الصديق د. محمد عبد الله عبد المحسن الفريح الذي رأيت ما سرني من تقدير؛ فهو ذو خبرة واطلاع على التاريخ السعودي ولم ألقه يوما إلا هاشا باشا تأتيك مشورته الصادقة عفوا تشعر به نابعا من أعماق التقدير والمودة.
أما عراب الجمعية التاريخية السعودية، وحامل لوائها سنين عددا، علما وخلقا وبراعة في الإدارة وتقديم كل ما من شأنه أن يخطو بها خطوات جادة ورزينة لتحقيق ما أنشئت من أجله. وكان لي شرف الإسهام في نشر بحث عن كتاب دو كورانسيه قبل صدور الكتاب في مجلة الجمعية المحكمة؛ إنه الأستاذ الدكتور عبدالله علي الزيدان. رئيس الجمعية التاريخية والرجل الذي يزينه الخلق والكرم والعلم. ولا تذكر الجمعية دون ذكر الأستاذ الدكتور سعيد القحطاني المخلص في عمله الودود في معاملاته وكنت آنس بزياراته في مكتبي ونتجاذب أطراف الحديث في موضوعات العلم والحياة. وكان من حسن طالعي أنني كنت في مرات أدعى إلى حفل قسم التاريخ السنوي الذي كان فرصة للتعلم والاستئناس بأحبة تربطني بهم أواصر المودة والعلم.
أما الصديق والمؤرخ الفذ الأستاذ الدكتور عبد اللطيف محمد الحميد أستاذ التاريخ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ورئيس تحرير مجلة الدرعية في سنوات صدورها. وقد لقيته أول مرة في مجلس شيخنا أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري يحفظه الله. ومن ثقته التي لا أنساها بشخصي الضعيف أنه رشحني أكرمه الله لقراءة كتاب أعده الأستاذ الدكتور صابر عبد الرحمن طعيمة عن صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود يرحمه الله وإعداد مطالعة عنه، وعندما قرأت الكتاب وأعددت المطالعة رتب لي لقاء مع سمو الأمير رحمه الله. ولما تشرفت بلقائه في مكتبه بحضور صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن طلال آل سعود يحفظه الله والدكتور عبد اللطيف قدمت للأمير عرضا مختصرا لأهم نقاط مطالعتي فأعجب سمو الأمير رحمه الله بها، ووجه بأن يكون لي لقاء مع الدكتور طعيمة الذي كان أستاذا في جامعة طيبة في المدينة النبوية، وحصل اللقاء في مقر إقامة الدكتور في فندق الشيراتون. استمرّ اللقاء ساعة من الزمن ناقشنا فيها ما اقترحته فأبدى رحابة صدر تصدر عن رجل علم ورحابة صدر وخلق رفيع؛ كان عنوان الكتاب: «طلال بن عبد العزيز آل سعود الرؤية، والمنهج»، الطبعة الأولى، 2003م.
أما الصديق الدكتور راشد بن محمد بن عساكر، المؤرخ والباحث في التاريخ السعودي، فقد تشرفت بزيارته في منزله العامر في أول اهتمامي بالتاريخ السعودي وتركت تلك الزيارة في نفسي أجمل انطباع عن باحث ذي شخصية متفردة في رؤيتها العلمية المتزنة وكرمها وخلقها الرفيع. وشهدت مناقشة رسالته المشهودة للدكتوراه من جامعةً الملك سعود، ومساره المظفر بعد ذلك وحتى يوم الناس هذا.
وقد كان من حسن طالعي أن هيأ الله لي معرفة كوكبة أخرى من الباحثين والمهتمين بالتاريخ عموما والتاريخ السعودي فضلا عن سعة صدورهم وبذل الوقت والجهد والإمكانيات لتتبع المخطوط والمنشور استقر في الذاكرة منهم الدكتور خالد بن زيد المانع الذي كان من تلامذة علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله وعرفته في الندوة التي تنعقد في دارة العرب عاملا ومشاركاً مهتما بالتاريخ السعودي وبأوقاف آل سعود في مختلف مناطق المملكة الدكتور المانع ذو خلق رفيع لا يبخل بما تزخر به ذاكرته من معرفة بالتاريخ المحلي، تأنس بحديثه وتواضعه وحبه لبذل ما يعرفه والمساعدة في كل ما تصل إليه يده من كتب ووثائق. ولنا لقاء.