د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
عنوان هذا الكتاب ذكي في دلالته على غرضه وهو بيان ما يعرض للكلام من أخطاءٍ في حركات الكلم أو حروفه، إذ الملاحظ أن الفرق بين (تصحيح) و(تحريف) يقع في آخر حرف وكذا (تحرير) و(تحريف). و(التصحيف) تغيير الأحرف، و(التحرير) تغيير الحركات، قال السيوطيّ:
فَمَا يُغَيَّرْ نُقْطُهُ مُصَحَّفُ … أَوْ شَكْلُهُ لا أَحْرُفٌ مُحَرَّفُ
أما الكتاب فألفه صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت 764ه)، تحدث فيه عن علة تأليفه فبيّن أن «التصحيف والتحريف قلّما سلم منهما كبير، أو نجا منهما ذو إتقان ولو رسخ في العلم رسوخ ثَبير»(1). وبيّن أنّ التصحيف أو التحريف لا ينطبق على اختلاف القراءات قال «على أنه وقعت في القرآن العظيم أحرف واحتمل هجاؤها لفظين، وهو قراءتان»، مثل قوله تعالى إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [6-الحجرات]، قرئ (فَتَثَبَّتُوا). وقد سلم القراء من ذلك لتلقيهم القراءة مشافهة، ولكن وقع التصحيف لمن اعتمد على الكتابة(2)، وأما المحدّثون فدوّن المصنفون كثيرًا من تصحيفهم، «من ذلك ما حكاه أبو أحمد الحسن العسكري قال: حكى القاضي أحمد بن كامل قال: حضرت بعض مشائخ الحديث من المغفّلين، فقال: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جِبْرِيلَ عَنِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ)، قال: فنظرت، فقلتُ: مَنْ هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟! فإذا هو قد صحّفه، وإذا هو: عَزَّ وَجَلَّ. قال العسكري: وأخبرني أبو علي الرازي قال: كان عندنا شيخ يروي الحديث من المغفّلين، فروى يومًا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ احْتَجَمَ يَوْمًا وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجُرَّةً(3). وروى بعضهم أن بعض المغفّلين روى أن النبي صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْسِلُ خُصَى حِماره، وإنما هو (يغسل حَصى(4) جِماره)، بالحاء المهملة أوّلًا وبالجيم ثانيًا. وروى بعضهم: (الجار أحقُّ بصُفَّتِهِ) بالفاء مشددة والتاء ثالثة الحروف، وإنما هو بِصَقَبِهِ، بالقاف والباء الموحدة»(5)، ومن تصحيف الفقهاء «قال يومًا بعض المدرّسين: ولا يكون النَّذْرُ إلا في قَرْيَةٍ، قاله بالياء آخر الحروف، وهو بالباء الموحدة مضمومة القاف، وقال بعضهم في (التنبيه)(6) ويُكره القَرَعُ ويُحِبُّ الخِيار، وإنما هو ويُكره القَزَعَ بالزاي، ويجِبُ، بالجيم، الخِتان، بالتاء ثالثة الحروف وبعد الألف نون. وقال بعضهم يومًا: وقال الشافعي: ويُستحبُّ في المؤذن أن يكون صَبِيًّا، بالباء الموحدة والياء آخر الحروف، فقيل له: ما العلة في ذلك؟ قال: ليكون قادرًا على الصعود في درج المئذنة، وإنما هو صَيِّتًا، من الصوت»(7).
وذكر الصفدي جملة من الأخبار عن التصحيف أعقبت أفعالًا مؤسفة، وذكر كيف استغل الشعراء والكتاب ما هو كالتصحيف في محسنات بديعية لما كتبوه كما في مقامات الحريري، وذكر من التصحيف اللطيف ما جاء في قصيدة لصفيّ الدين الحلّي، غذ تنتهي أبياتها بلفظ (عيسى) وهذا اللفظ قد يكون تصحيفًا لغيره.
ولم يقتصر الكتاب على أمثلة التصحيف والتحريف بل هو عام في كل لحن، وحاول الصفدي جمع ما وجده من ذلك في كتب الآخرين وسمّى الكتب التي استوعبها، وجعل لكل كاتب رمزًا من حروف المعجم. قال في (ص53) «ولما وقفت على كتب أهل العلم ممن تصدّى لرفع التصحيف ودفع التحريف» وبدأ يمثل للكتب، وجاء جواب (لما) في (ص 55)، أي بعد 22 سطرًا، «أردت أن أنتقي من ذلك كله مجموعًا يغني كله عن أجزاء هذه المصنفات المذكورة». فلا غرابة أن جاء الكتاب في جزأين استغرقا (764 صفحة).
وُفّق إلى تحقيق الكتاب الأستاذ عبدالله بن عبدالكريم المفلح رحمه الله، وكان هذا مشروعه في درجة الماجستير، وكان انتظم في أول دفعة لهذه الدرجة حين أنشئت في قسم اللغة العربية في جامعة الرياض (الملك سعود حاليًّا)، سنة 1973م، لقيت الأستاذ عبدالله؛ إذ كنت معيدًا في القسم وجلست مع طلاب الشعبة مستمعًا في درس تحقيق المخطوطات، بل توليت تصوير الورقة التي نجري عليها التدريب، كان الأستاذ هو الدكتور رمضان عبد التواب رحمه الله، وقد عيّن مشرفًا على الرسالة أي تحقيق (تصحيح التصحيف وتحرير التحريف) ثمّ خلفه أستاذي الدكتور حسن شاذلي فرهود رحمه الله. كانت معرفتي بالأستاذ عبدالله قليلة؛ لأني سافرت؛ ولكني لحظت اتسامه بالحياء والهدوء والتواضع والطيبة.
أحسنت الدكتورة منى بنت عبدالله بن عبد الكريم المفلح أن عزمت على نشر رسالة والدها التي نوقشت في 1397ه/ 1398ه، ولعل من دوافع نشرها إبراز عمل والدها ليتبين أنه أحقّ بالذكر والتقديم من (دسوقي إبراهيم الشرقاوي) الذي حقق الكتاب بإشراف الدكتور رمضان عبد التواب أيضًا، ونوقشت رسالته في 1406ه، ونشرت في 1407ه، وقد أفاض زميلنا الأستاذ القدير الدكتور عبدالرحمن بن ناصر السعيد في بيان عيوب نشرة الشرقاوي ونقصها، وأوضح خطأ الدكتور رمضان عبدالتواب الذي حثّ طالبه وساعده على تحقيق الكتاب مع علمه بأنه مسبوق إلى ذلك(8)، غفر الله له ما كان له من أخطاء أخرى.
وأحسن (كرسي الدكتور عبدالعزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها) في جامعة الملك سعود بأن نشر الرسالة فظهرت برقم (25) في الطبعة الأولى 1437ه/ 2016م.
ولكن نشرة الشرقاوي أشيع بين الناس؛ لأنها مبذولة في الشابكة يطلع عليها طالب العلم أنى كان في هذا العالم، ولذلك لعل الكرسي يسعى إلى رفع منشوراته على الشابكة لتنال طلاب العلم.
**__**__**__**__**__**
(1) تصحيح التصحيف وتحرير التحريف للصفدي، 1: 2. وثَبير جبل مشهور ذكره امرؤ القيس في معلقته.
(2) تصحيح التصحيف وتحرير التحريف للصفدي، 1/ 12.
(3) الصواب: أَجْرَهُ.
(4) كتبت في المطبوع (حصا)، وهو تصحيف صوابه ما أثبته.
(5) تصحيح التصحيف وتحرير التحريف للصفدي، 1/ 12-13.
(6) التنبيه كتاب في الفقه الشافعي للشيرازي.
(7) تصحيح التصحيف وتحرير التحريف للصفدي، 1/ 13.
(8) المجلة العربية 577، ربيع الأخر 1446ه/ أكتوبر 2024م، ص ص 50-53.