سليم السوطاني
عندما نقرأ في مجال السير الروائية نجد في بعضها تجارب قاسية جداً مرّت بالشخصية، وقصة شقاء لاحد لها عاشها الأديب، تحت وطأة البؤس والحرمان والفقر والذل والقهر…
تعد رواية «الخبز الحافي» الذائعة الشهرة، لمحمد شكري، من أكثر السير التي أحدثت جدلاً في الأوساط الأدبية، إذ دوّن فيها شكري كل شيء مر به في حياته، من دون مواربة أو اختباء خلف تلميع للذات وتجميل لها.
هناك من هاجم لغة الشتم، التي كانت تسير مواكبة للأحداث التي تعرض لها الكاتب... وصحيح أنه أغرق في ذلك، إلا أن هناك من أغفل العديد من الأسئلة، التي تغزو عقل القارئ، حول هذا العمل، بعيداً عن رؤى النقد وأسسه... ومنها، هذه الأحداث المأسوية التي عاشها الكاتب؛ كيف كان أثرها النفسي في مشاعره، وهو يستعيد ما حدث له من ذاكرته ويكتبها؟
ما الذي جعله يتفسخ من كل شيءٍ، ويتجرد من الحياء، ليذكر أحداثًا معيبة ارتكبها في ذلك الوقت؟
ما الذي جعله يكره والده ذلك الكره العجيب والغريب، في الوقت نفسه، على طبيعة البشر السوية؟
إذ يقول، في رواية الخبز الحافي، عبارة تثبت كراهيته لوالده: «صرت أفكر، إذا كان من تمنيت أن يموت قبل الأوان فهو أبي. أكره أيضاً الناس الذين يشبهون أبي. في الخيال لا أذكر كم مرة قتلته! لم يبقَ لي إلَّا أن أقتله في الواقع».
الشيء اللافت للقارئ أن شكري كشف للقراء عن خبايا نفسه، وكتب حتى ما كان يدور في خياله من حقد وكراهية للآخرين، وحتى العهر، والنزوات، والرغبات التي تجتاح مخيلته ويمارسها عبر خياله، كشف عنها من دون خجل أو حياء يمنعه... فدوَّن كل شيء...!
أتساءل محتاراً: هل الأحداث التي مرت بالكاتب وذاق ويلاتها، من تشرد وفقر وبؤس، حوّلته إلى شرير أثناء الكتابة، وجعلته ينتقم بطريقته ويوزع الشتائم واللعنات على كل الذين مروا في حياته، في تلك الفترة، فدفعته ليكتب منتقماً حتى من أقرب الناس إليه؟
هذه الرواية جديرة بالدراسة والتفكيك، كي نحاول الوصول إلى الدوافع التي جعلت الكاتب يكتب كل شيء مر به من دون خجل...
السير الروائية قيمتها في مصداقيتها ومن دون تجميل، لكن هذه الرواية تحديداً تعدت جميع المراحل، فقد كانت تظهر لنا شخصية مريضة، وربما ذلك المرض النفسي هو الذي دفع كاتبها إلى ذكر كل التفاصيل التي جعلته يكره والده والعالم…
الأدب ينقل إلينا مشاعر إنسانية ورؤىً وصوراً من زوايا مختلفة، وفن السير الروائية من أجمل الفنون التي تجعل القارئ يتوقف عندها، لكن مَنِ الكاتب الذي يتجرأ ويكتب كل ما مر به من حقائق ووقائع؟ لا أعتقد أن هناك إنساناً في هذا العالم العربي سيمتلك الجرأة فيكتب بمثل جرأة محمد شكري في رواية «الخبز الحافي».
أتحفظ كثيراً على بعض ما ورد في الرواية، من توزيع السباب والشتائم المقذعة؛ ولا سيما أنها تتكرر فيكل فصل، وكل صفحة… لكنني لا أنكر أن قراءة هذا العمل استوقفتني كثيراً، وقرأتها أكثر من مرة، محاولاً تحليل ماهية شخصية الكاتب، وهل الفقر والتشرد يجردان الفرد من قِيَمِه وأخلاقه، ويجعلانه يتحدث عن أدق أسراره وتفاصيل حياته، ويتناول بعض الأحداث المخزية في سيرته، وينشرها على الملأ؟