كانت أحلام الطفولة تراود والدي -رحمه الله- وهي أحلام بسيطة بحجم البراءة، لكنها سرعان ما تحولت إلى واقع صنعته عزيمته وصبره. كان يجلس أحيانًا يتأمّل، يغمض عينيه وكأنه يرى المستقبل ماثلاً أمامه، أحلامه تتسابق لتتحقق، وكأن هذا الطفل الذي خرج من قريته الصغيرة لا يحمل إلا إصرارًا على ألا يترك حلمًا واحدًا دون أن يحوله إلى حقيقة.
ولدت وترعرعت على نعمة رعاية والدي في شيخوخته، وأكرمني الله بهذه الفرصة العظيمة، لأكون بجانبه في أيامه الأخيرة، مشاركًا معه في رحلة الحياة التي كان يعيد سرد فصولها بإيمان وثبات. كنت أرى في عينيه تاريخًا مليئًا بالكفاح، وقلبًا مملوءًا بالمحبة. ولعائلتي أيضاً، إخوتي وأخواتي، كان الوالد -رحمه الله- نبعًا من الحنان والتوجيه، مستمرًا في دعمه لنا حتى آخر أيامه.
والدي -رحمه الله- كان من الرعيل الأول في المملكة العربية السعودية، خرج من قرية صغيرة في شرق المملكة، وهي بداية شكلت مسار حياته. انتقل إلى لبنان لاستكمال تعليمه بعد أن أنهى دراسته في «المدرسة الأميرية» في الأحساء، التي كانت حينها واحدة من أبرز المدارس. كان شديد الحب والاحترام لمعلميه، وأذكر جيدًا قصصه عن الشيخ عبد الله بن باز -رحمه الله- الذي كان أحد أعمام الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي الديار السعودية فيما بعد، والمرحوم عبد المحسن المنقور. كان لهم تأثير كبير في تكوينه الفكري والروحي.
لا يزال من الغامض لدي كيف استطاع والدي التوجه إلى لبنان في فترة كان فيها في مقتبل العمر، بعد أن حصلت لبنان على استقلالها عن فرنسا. درس والدي في المقاصد الإسلامية في بيروت، تلك المؤسسة التي كانت وما زالت تنال دعم المملكة العربية السعودية، واستمر في تعليمه حتى التحق بـ «الجامعة الأمريكية» في بيروت، التي كانت تقدِّم التعليم الثانوي آنذاك. ثم انتقل في مطلع الخمسينيات إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراسته الجامعية.
كانت الحياة الاجتماعية المعقدة التي مرَّ بها الوالد سببًا في تشكيل شخصيته المتوازنة. فجدي من سراه عبيده، وأمه من الحوطة، ووالدتي من الدرعية، وهو مزيج ثقافي واجتماعي متنوِّع أعطاه فهمًا عميقًا للإنسانية وحبًا لزيارة هذه المدن باستمرار حتى وفاته. وكان دائمًا يقول إن ما يملكه يجب أن يعود إلى الوطن، وكان يؤمن بأن دعم أبناء هذه المدن من خلال الأوقاف التعليمية هو الطريقة المثلى لرد الجميل.
خلال فترة دراسته في الولايات المتحدة، وتحديدًا في ولاية أوهايو في خمسينيات القرن الماضي، عايش والدي بعض أصعب التحديات، حيث كان الفصل العنصري يفرض عليه قيودًا مثل الجلوس في أماكن مخصصة للملونين على الباصات. هذه التجربة كانت من أبرز الدروس التي تركت بصمة عميقة في شخصيته، وشكلت رؤيته العميقة حول العدل والمساواة، وتجاوز الفوارق العرقية والمذهبية.
بعد عودته إلى المملكة، قضى والدي فترة طويلة في العمل بوزارة المالية خلال الستينيات، قبل أن ينتقل إلى القطاع الخاص. ورغم تعرضه للإفلاس خلال حرب الخليج، إلا أنه لم يستسلم، واستطاع بنشاطه وحبه للحياة أن ينهض مرة أخرى. كان دائمًا مبتسمًا، رغم كل التحديات التي مر بها، وكانت روحه المتفائلة وروحه القتالية إحدى أهم سماته.
كان والدي -رحمه الله- حريصًا دائمًا على تقديم صورة مشرِّفة لوطنه. أتذكر رحلاته العديدة في الثمانينيات إلى الولايات المتحدة لزيارة الجامعات والتعريف بالمملكة في ذلك الوقت. كان لديه قدرة فائقة على التواصل وبناء العلاقات. أتذكر تلك الخريطة التي كانت تزيِّن مكتبه في المنزل، والتي دوَّن عليها أسماء الأشخاص الذين تعرَّف عليهم وتواريخ ميلادهم. كان دقيقًا في تسجيل كل تفاصيل عنهم، وعلمه هذا بتلك التفاصيل عزَّز من شبكة علاقاته التي استمرت حتى وفاته.
أجمل ما رأيته في والدي كان شيئين: حبه العميق لوالدتي، وكيف كان يحترمها ويعاملها طوال تلك السنين، ووفاءه الكبير لها. كان دائمًا يردد أن «هي رأس المال». والأمر الآخر هو حبه واهتمامه بزوجتي خلود، فقد كان حريصًا على التأكد من أنها بخير، وكان يخصص لها وقتًا دون علمي في آخر أيامه لمعرفة أحوالها. جمع قصاصات الأدب والشعر العربي، وكان يحب اللغة العربية وآدابها.
تتشابه الأيام الآن، لكنها لا تتشابه بوجودك يا أبي. سأحمل معي دائمًا منديلك الأبيض المفضَّل برائحة زيت الزيتون التي كنت تحبها. ستبقى رائحتك معي، وستظل ذكراك في قلبي يا والدي. رحمك الله رحمة واسعة، اشتقنا إليك كثيرًا.
** **
- ماجد عبدالرحمن العيسى