سلمان بن محمد العُمري
قال إبراهيم النخعي-رحمه الله-: «كانوا يطلبون الدنيا، فإذا بلغوا الأربعين طلبوا الآخرة»، وأحسب أن الشيخ أبا عمر الدكتور دبيان بن محمد الدبيان-متعه الله بالصحة والعافية - من هؤلاء، ومن الأكاديميين القلائل الذين أعطوا العلم حقه من العناية والاهتمام، ولم تتوقف همتهم على الحصول على الشهادات العليا وعلى الترقيات العلمية، بل كان له هدف ومشروع حياة أسمى بكثير من هذه الأمور الدنيوية، وتمثل في وضع موسوعة تتضمن أبواب الفقه كاملة، والذي شرع فيه قبل أكثر من سبعة وعشرين عاماً، ومنها: موسوعة أحكام الصلوات الخمس والتي ستصدر قريباً بإذن الله، وهو امتداد لمشروعه العلمي الفقهي الذي أُنجز منه (48 مجلداً)، تفصيلها كالتالي:
- بلغت مسائل مشروع الصلاة: 1150 مسألة في (10446 صفحة)، في ثمانية عشر مجلداً.
- بلغت مسائل مشروع المعاملات المالية: 2133 مسألة في (11855 صفحة)، في عشرين مجلداً.
- بلغت مسائل مشروع الطهارة: 932 مسألة في (5570 صفحة)، في عشرة مجلدات.
ليكون المجموع: 4215 مسألة في (27871 صفحة)، ولله الحمد، وهذا القدر من المشروع ربما يبلغ نصف المشروع الفقهي.
وبين الشيخ دبيان بأنه حرص على ذكر عدد المسائل والصفحات ليعذر المطلع فإذا وقع على وهم، أو على خطأ هنا أو هناك، فإن مشروعاً بهذا العدد يقوم به شخص واحد بحثاً ووصفاً وطباعة لعمل مكلف جداً ويصعب معه التحفظ من عدم السهو والخطأ إن لم يكن ذلك مستحيلاً مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء. فمع تنوع مادة المشروع من فقه وحديث وأصول وقواعد وتراجم في عمر يمتد (لسبعة وعشرين عامًا) فلا بد من الوقوع في السهو والخطأ.
وليس كل من أحسن التنقير لو تعرض للتأليف أحسن التدبير والناقد بصير، فإذا كان المضمون سميناً، فلا يضيرك الشكل، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
ويقول أيضاً لو دفعت بالكتب إلى دور النشر لجوَّدوه، ولحملوا عني مؤنة صفه وتدقيقه ولكنهم ليسوا جمعية خيرية، وأنا أتطلب بيع الكتاب بأقل من سعر التكلفة عن طريق بعض المحسنين، وأبادر بنشر الكتاب على الشبكة، وعلى البرامج الحاسوبية؛ ليصل إلى من يستفيد منه ممن لا يصل إليهم الكتاب، وقد أوقفت جميع حقوقي في جميع كتبي.
وعلى من ضيع وقته أن يستدركه فيما بقي فالأيام وعاء، ولا عزاء للنوم، ولا لمن آثر السمر في الاستراحات، وقطع بالثرثرة أعز الأوقات، حتى مضى عمره عليه حسرات، فلما سُقِطَ في يديه أصبح يقلب من الحسرة كفيه، وهيهات هيهات أن يتدارك ما فات.
وإياك والنصائح المضللة أن تفت في عضدك، فهناك من يقول لك: لا تكتب إلا بعد الخمسين حتى تبلغ في العلم مبلغ الراسخين، فتكون كتابتك أنفع، وعلمك أشمل، ووهمك أقل، وليس للرسوخ في العلم مكيال يعرف به مقداره، ولا تقدم العمر وحده هو من يبلغك مناله، بل هذا الناصح لم ينتبه أنه ربما تربص بك إلى بداية الضعف والوهن وما عساك أن تنجز فيما بقي من عمرك، بل اكتب في شبابك وقوتك فالكتابة دربة كلما أكثرت منها رسخ قلمك، وتراكمت خبرتك، ولا مانع من عدم التسرع في الطبع، ولكن لا تترك الكتابة إن كانت الكتابة من همك ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
وقد بدا الوهن يدب إلى عظامي، ويوشك زيت التجلد أن ينفد، فالظهر والركب كلها تشتكي من طول الجلوس على البحث، وأصبحت العوائق مخوفة، وأصبحت لا أهوي جالسًا ولا أقوم منه واقفًا إلا ويقوم منه شاهد على ضعف البدن، وكلها إشارات بتصرم القوة، وخور العزم، وهذا أمر متوقع وما حدث في أوانه لا يستغرب، وأسأل الله لي وللقارئ الكريم حسن الخاتمة.
وعلى كل حال فاعلم أيها الشاب: أنه لا عمل كامل، وكل خطأ ارتكبته فهو وسيلة لمعرفة الصواب، وسينفع الله بك العباد، فلا تحقرن نفسك، وكل كبارنا اليوم كانوا بالأمس في سن الشباب يرجون ما ترجوه، ويحذرون ما تحذره، وصبروا على النصب والتعب، وأخلصوا لله في الطلب، وكان سعيهم بين نجاح وإخفاق حتى أصبحوا بيننا اليوم علامات كالنجوم يهتدي بها السائرون، يقول هشام بن عروة بن الزبير: كان أبي يجمعنا فيقول: يا بني، كنا صغار قوم وإنا اليوم كباره، وإنكم اليوم صغار، وستكونون كباره إن بقيتم، وإنه لا خير في كبير لا علم له. والله أعلم».
هذا ما ذكره الشيخ الدكتور دبيان عن نفسه وما نقل عنه أقدمه لكم كأنموذج لعلو الهمة، ورسالة للعديد من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الذين تحجروا في بحوث الترقيات وانكفأوا على أنفسهم.