محمد سليمان العنقري
رغم فداحة الأحداث التي عصفت بالمنطقة وتحديداً منذ الغزو العراقي للكويت قبل أربعة وثلاثين عاماً، وما تبعها من تسلسل لعدم استقرار الشرق الاوسط، وتوجت بالاحتلال الامريكي للعراق قبل 21 عاماً، ثم تلاها نشر الفوضى بدول عربية بداية من عام 2011 التي تسببت بمقتل واصابة الملايين العرب، وهجّرت شعوباً وحولت دولاً لفاشلة، وقوت فيها تنظيمات ما دون الدولة؛ امتداداً لمشاريع تأسيس الاحزاب السياسية على اساس ديني تسبب في ظهور نزعة طائفية بتلك الدول الفاشلة؛ مما اعطى الفرصة لدول مجاورة للمحيط العربي كي تحاول الاستفادة من هذه الحالة الفوضوية حتى تتغلغل وتصنع تأثيرا يمنحها تمدداً زائفاً في حقيقته، ولا ينتج عنه سوى مزيد من الخراب والدمار والمتاجرة بقضايا ذات بعد عميق واهمها القضية الفلسطينية.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه كل دقيقة هل هذا الحال الذي ولد يأساً عند شعوب عربية اصبحت لا ترى اي بصيص امل لإمكانية عودتها لدولها، بعد تهجير قسري بخلاف ما نتج عن هذه الحروب الاهلية من تفكك اجتماعي وكوارث لن تندمل جراحها واثارها لسنوات سيبقى مسيطراً، ام أن المنطقة بدأت تنتقل لمرحلة جديدة كلياً، وما هو التوجه القادم وهل الشرق الاوسط يغرد وحيداً وبعيداً عن النظام العالمي الوليد، إن الاجابة على هذه التساؤلات ضمن السؤال الرئيسي الشرق الاوسط إلى اين قد تحتاج إلى أبحاث عديدة ومراكز دراسات رصينة، لكن يمكن النظر إلى عدة مؤشرات قد ترينا إلى اين تتجه هذه الجغرافيا الاهم في العالم، حيث تمد العالم بنسبة كبيرة من الطاقة التي لولاها لما تحرك الاقتصاد العالمي، كما انها تعد منطقة واعدة جداً اقتصادياً وهي منبع لاهم حضارات العالم والتنمية فيها ستدعم الاقتصاد العالمي لعقود قادمة، فشعوبها فتية ومتعلمة وجغرافياً الشرق الاوسط يرتبط بأهم القارات من حيث المساحة وعدد السكان وامتلاك مصادر الطاقة والموارد الطبيعية وخطوط الملاحة البحرية الرئيسية بحركة التجارة الدولية، ويمثل ممراً رئيسياً لسلاسل الامداد والعديد من المزايا التي تجعل مكانته بمثابة القلب للجسد في الاقتصاد العالمي.
إن اتجاه الشرق الاوسط القادم هو مكمل للتحولات التي تحدث في العالم حيث سقطت الايديولوجيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 وتركزت الخطط والتوجهات نحو الاقتصاد الحديث القائم على الرقمنة والتكنولوجيا، والاهم هو استثمار كافة الامكانيات بكل الجغرافية العالمية لاستدامة التنمية وانتشارها، فلم تعد ادارة الصراعات وافتعال الازمات والحروب سياسة ناجحة للقوى المتقدمة والغربية تحديداً لتحقق نمو باقتصاداتها بعد ظهور الصين التي اصبحت ثاني اقتصاد عالمي، وتكتسح منافسيها بكل المجالات وتقترب من الاستقلال التكنولوجي وتحظى بقبول من الاقتصادات الناشئة والنامية ذات الاسواق الواعدة لأن مبدأ علاقاتها الدولية قائم على الاقتصاد والاستثمار والعلاقات التجارية دون التدخل بشؤون الدول، وسياستها المعلنة هي دعم الاستقرار الدولي الذي يتيح الفرصة لنمو اقتصادي عالمي مستدام، وتعتبر نفسها قائدة لمشروع نهضة دول الجنوب كي تغلق الفجوة المعرفية والمعيشية مع دول الشمال المتقدم التي تستأثر بجل موارد العالم وتهيمن على ما يقارب 43 بالمائة من الاقتصاد العالمي، رغم أن عدد سكان تلك الدول لا يمثل اكثر من 15 بالمائة من سكان العالم البالغ حوالي 8 مليارات نسمة اي مليار يستحوذون على قرابة نصف الناتج الاجمالي العالمي البالغ 100 تريليون، بينما سبعة مليارات انسان يتوزع عليهم ما تبقى من هذا الرقم الفلكي، لكن في عمق تفاصيل هذا المشهد فإن السياسات الاستعمارية للغرب وهيمنته على المؤسسات الدولية واحتكار المعرفة والانتقال لأشكال متعددة من الاستعمار العسكري إلى الاقتصادي والفكري والثقافي اعطاهم هذه القدرة لامتلاك النصيب الاكبر من ثروات الارض قياساً بعدد دولهم وسكانهم، لكن ذلك لم يعد ميزة مطلقة وبدأ تأثيره يتراجع بظهور اقطاب جديدة.
ولذلك فإن هذا التحول الذي يجري حالياً في الشرق الاوسط نحو نزع فتيل الازمات وتصفية المليشيات التي استخدمت لنشر الفوضى مع انظمة دول طامحة وطامعة لكنها لم تكن اكثر من اداة وظيفية لتحقيق هدف بات واضحاً الخطأ الجسيم الذي بني عليه وان ما حققه هو كوارث وفظائع تكلفتها كبيرة جداً، بل انها اعطت الفرصة للدول المنافسة للغرب واميركا تحديداً كي تكون هي الشريك والمنقذ من هذه الفوضى، بما انها تتوجه نحو البناء والتنمية بعكس الدور الغربي السلبي، فالتوجه الامريكي الجديد اصبح واضحاً لاستعادة دورها المحوري بالمنطقة وبعد الانتهاء من كل ما يعيق الاستقرار واتجاه الدول التي طغى عليها مشهد الفوضى، لتبدأ، ببناء نظام سياسي يعيد لها سيادتها واستقرارها والبدء بمرحلة البناء وقيام دولة فلسطينية تنهي مأساة شعب منذ 75 عاماً، فإن الشرق الاوسط بما يملكه من امكانيات مع وجود دول مستقرة وذات ثقل اقتصادي واهمية دولية كبيرة جداً في دعم النمو العالمي وخصوصاً دول الخليج العربي، فإن امكانية قيام اتحاد شرق اوسطي جديد تصبح هي الاكثر موضوعية لكي تتحقق الاهداف التنموية التي تتماشى مع اتجاهات النظام العالمي الوليد، ويمكن للقوى الغربية أن تكون هي الشريك الاوفر حظاً بالعلاقة مع الجغرافيا الاهم بالعالم، ويلاحظ ذلك من خلال بداية ملامح تحالفات وشراكات تتشكل من جديد باطار اكثر عمقاً من ذي قبل، كالقمة الاوروبية الخليجية التي عقدت قبل ايام ببروكسل واوضح بيانها ان الدول المشاركة مستعدة لعقد شراكة القرن 21 الاستراتيجية، ويلاحظ ان اميركا ايضاً تستعد لعقد مثل هذه الشراكات مع دول الخليج الاكثر قوة واستقرارا، وتمتلك رؤى وخطط تنمية واضحة وامكانيات هائلة وسبق ذلك شراكات مع الصين واليابان وغيرها من الدول المهمة اقتصادياً، فما يجري العمل عليه من مثل هذه الشراكات المهمة ما هو الا نواة للشكل الاخير الذي سيكون عليه الشرق الاوسط، حيث ستجد كل الدول الاخرى فيه نفسها امام خيار واحد يحقق لها مصلحتها بعودة التنمية والاستقرار، وهو اتباع نهج دول الخليج العربي في سياساتها واتجاهاتها الواقعية التي اثمرت ازدهارا اقتصاديا وحقق لها مكانة دولية رفيعة بكل المجالات خصوصاً الاقتصاد وجاذبية الاستثمارات لها.
الشرق الاوسط الجديد سيقوم على اساس اقتصادي وبعد تنموي، ليكون هو ايقونة الاقتصاد العالمي والقوة فيه للدول التي تحقق الامان لإمدادات الطاقة عالمياً واللاعبين الرئيسيين في استقرار سلاسل الامداد العالمية والمملكة العربية السعودية هي من يمتلك هذه المقومات واكثر من ذلك بفضل مكانتها الكبيرة عربياً واسلامياً وامتلاكها لموارد طبيعية هائلة، وسياساتها الحكيمة وعلاقاتها الدولية الواسعة وخططها الاقتصادية الناجحة وتوجهاتها المبنية على قراءات واقعية واستشراف للمستقبل في ظل رؤية 2030 التي قفزت بالناتج الاجمالي للمملكة إلى ما يفوق تريليون دولار أمريكي وبنسبة نمو مجمعة بلغت حوالي 65 بالمائة خلال ستة اعوام فقط.