د.شريف بن محمد الأتربي
في عام 1992م بدأت رحلتي في مهنة التعليم حين عينت معلما لمادة المكتبة والبحث للمرحلة الثانوية في مدارس الرياض، لم أكن شغوفا بمهنة التعليم، ولكنها فرصة للدخول إلى عالم جديد بعيدا عن عملي في الجامعة، بدأ الاستعداد للعام الدراسي، الكل يتسابق لتجهيز نفسه لانطلاقة جديدة، الجميع يملكون خبرات تفوق سنوات عمري المحدودة، فلم أكن قد تجاوزت الخامسة والعشرين من العمر آنذاك، حياة جديدة، وعالم مختلف تماما، هنا سألت نفسي ماذا أنت فاعل؟
كانت البداية صعبة جدا، فالمادة العلمية جديدة، وأنا معلم جديد، في البداية ظننت نفسي متسلحا بما يكفي من العلم في مجال موضوع المادة العلمية، وأني أتفوق على طلابي، وعند البداية كانت الصدمة الأولى: لن تدرس المرحلة الثانوية حاليا، فالمادة العلمية المقررة لم تصل من وزارة المعارف حتى الآن، عليك أن تدرس في المرحلة الابتدائية.
ماذا سأفعل؟ سؤال حيرني لمدة أسبوع كامل، كيف سأتعامل مع هؤلاء الطلبة، فهم في نظري أطفال صغار، وهم ذلك فعلا. لم أكن قد تعودت على تدريس هذه الفئة العمرية، بل لم أكن تعودت على التدريس أصلا.
شمرت ساعدي وشحذت همتي لأبدأ بداية جديدة غير متوقعة، جمعت كل علمي ومعرفتي لمواجهة التحدي مع هؤلاء الطلبة، أردت أن أعلمهم علم المكتبات والمعلومات بما يحتويه من تصنيف وفهرسة وأرشفة، من معاجم وتراجم ودوريات ونشرات، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، أنا في وادٍ، وهم في واد آخر.
لم أصمد كثيراً أمام هذا التحدي، وكان القرار أن أعلمهم كما يحبون أن يتعلموا، وليس كما أحب أن أعلمهم، بحثت في المكتبة عما يمكن أن يفيدني، فوجدت أشرطة فيديو لسندباد وياسمينة، وكابتن ماجد، وغيرها من مسلسلات الأطفال التي كانت منتشرة آنذاك، وجدت مجموعات قصصية تشمل المكتبة الخضراء، وتان تان، فبدأت أستفيد من الفيديوهات كمحفزات قرائية، نقرأ قليلا، نتناقش كثيرا، نشاهد كمكافأة.
كان العمل مع هؤلاء الطلبة ممتعا، فقد تعلمت منهم كيف أتعلم، كل سؤال لم أكن أملك له إجابة كنت أحوله إلى نشاط لنا جميعا، استمتعت معهم بطفولتي التي لم أعشها بشكل واسع نظرا لارتباطي بوالدي وأعماله آنذاك، تعلمت منهم حب الاستطلاع والإلحاح في الحصول على المعرفة، تعلمت منهم براءة السؤال والحرص على التفوق المعرفي، تعلمت منهم الكثير والكثير لأنطلق إلى المرحلة الثانوية في مغامرة جديدة.
في هذه المرحلة من العمر مع طلبة تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة، والثامنة عشرة، عليك أن تكون أبا وأخا وصديقا وموجها ومرشدا، وفي بعض الأحيان لا مانع من لعب دور الأم في خوفها على أولادها وحنيتها معهم.
انطلقت مع هؤلاء الطلبة مع مرور ما يقرب من شهر ونصف من بداية العام الدراسي 1992-1993م، من هؤلاء؟ أنهم قريبون جدا من عمري، كأنهم أصدقائي الذين تركتهم خلفي مرتحلا إلى الرياض، كيف سأتعامل مع هؤلاء الطلبة؟ وكيف أقنعهم أني معلمهم؟ كان الحل بسيطا جدا، ويتماشى مع المثل القائل: إن كبر ابنك خاويه. أشعرتهم أني صديقهم، وأخوهم الكبير، وأن وجودي هنا لمصلحتهم، نقلت إليهم مشاعري المحبة لهم، وحرصي على تعليمهم، شددت عليهم في تدريس المقرر حتى لا يستهينوا به، كان الجميع متفاجئا، كيف لمعلم مادة المكتبة أن يسيطر على طلاب عجز فطاحل معلميهم من المواد الأخرى أن يسيطروا عليهم؟ هوجمت وحيكت ضدي الكثير من المؤامرات لإقصائي عن العمل، وكان طلابي هم خط الدفاع الأول عني، لم يريدوا لي أي ضر، بل بالعكس حين تم تقسيم العمل بيني وبين زميل آخر لتجهيزه للحلول محلي، لم يرضخ طلابي لذلك وطالبوا الإدارة بعودتي لتدريسهم مرة أخرى، حاولوا إثناءهم عن ذلك بكل السبل، لكن أبنائي رفضوا وأصروا أن أعود معلما لهم، لماذا؟ لأنهم شعروا بمحبتي لهم، وحرصي عليهم، وأن شدتي بغرض تعليمهم وليس ترهيبهم، واستمرت رحلتي لمدة 25 عاما، في كل عام لدي جديد لأقدمه لهم.
ركزت في رحلتي التعليمية على العدل والمساوة بين الجميع، لا تفرقة بين طالب وأخر، كنت نصيرا للضعفاء، ومواجها للأقوياء، متفهما للظروف ومقدرا لدور الأب والأم، لقد شهدت كيف يمكن للكلمات أن تؤثر على النفوس. من خلال الدروس، لا أقدم فقط معلومات أكاديمية، بل أعمل على غرس القيم والأخلاق. إن رؤية طالب يتغلب على صعوباته أو يحقق إنجازًا، هي من أجمل اللحظات التي يمكن أن يعيشها المعلم.
لا يخلو العمل في التعليم من التحديات.
التعامل مع مجموعة متنوعة من الشخصيات والقدرات، والتكيف مع متطلبات العصر الحديث، مثل التكنولوجيا والابتكار، كان يتطلب مني مرونة واستعدادًا دائمًا للتعلم. ومع كل تحدٍ، تأتي المكافآت؛ فكل ابتسامة من طالب، أو شكر من ولي أمر، يذكرني لماذا اخترت هذه المهنة.
مضت السنون وتركت مدارس الرياض، ولكنها لم تتركني، ظلت قابعة في أعماقي، تذكرني بأحلى أيام حياتي، حين كانت مهنتي هي: (معلما).