د.عبدالله بن موسى الطاير
الخوف هو أقصر السبل إلى الحرب، وأذكر أنه عندما كنت في المرحلة الابتدائية حدثت «فتنة» بين قبيلتين على مورد ماء، وقتل من إحداهما شخص، وأعقبه لأشهر ترقب الثأر، ويروي من أثق بروايته -رحمه الله- أنهم سمعوا في الثلث الأخير من الليل صوتا في حوش البيت، فدفعهم الخوف للتصديق بأن القبيلة المناوئة قد أغارت عليهم لأخذ الثأر، فما كان من رب البيت سوى توجيه ضربة استباقية، بإطلاق رصاصة من فتحة صغيرة في الباب، فسكن الصوت، وعندما أشرقت الشمس اكتشفوا أن القتيل لم يكن سوى حمارهم.
معركة زابولينو أو حرب الدلو التي اندلعت عام 1325م بين بولونيا ومودينا الإيطاليتين كانت بسبب دلو مسروق، إذ أغار جنود مودينا على بولونيا وسرقوا دلوا، فأعلن البولونيون، الذين شعروا بالإهانة الشديدة، الحرب لاستعادة ممتلكاتهم الثمينة (الدلو)، وعلى الرغم من السبب التافه للحرب فقد أسفرت المعركة عن خسائر فادحة في كلا الجانبين، وخرجت مودينا منتصرة في النهاية، واحتفظت بالدلو كرمز لانتصارها.
وفي عام 1925م عبر كلب ضال الحدود من اليونان إلى بلغاريا بالقرب من بلدة بيتريتش، فأطلق حرس الحدود البلغاريون النار على جندي يوناني أثناء ملاحقته لكلبه، وأسهم الارتياب المتبادل وعدم اليقين من نية الآخر في تطور هذا الحادث العارض إلى مواجهة عسكرية كاملة بين اليونان وبلغاريا استدعت تدخل عصبة الأمم، التي دانت اليونان لاستجابتها غير المتناسبة مع الحدث، وفرضت عليها عقوبات. حرب الكلب الضال أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان التوتر في أوجه، مما جعل التوقيت مثاليا لنشوب هذه الحرب التي لم يكن لها من داع البتة.
الخوف من هجوم وشيك يؤدي إلى اتخاذ قرار بالضرب أولاً، حتى لو لم يتم تأكيد التهديد بشكل كامل، كما أن تصعيد التوترات يفاقهم الرعب ويغذي دائرة من عدم الثقة والعداء، مما يصعب حل النزاعات سلمياً، والدولة أو الجيش أو الأمة التي ترزح تحت وطأة الوجل تفقد القدرة على اتخاذ القرار الصحيح، وبالتالي التفسير السيء للموقف الذي يفضي إلى خطر اندلاع الحروب.
العلاقات بين الدول يكتنفها عدم اليقين بشأن النيات، وبالتالي تتوجس كل دولة من نيات الأخرى، ويصل بها الأمر إلى تأويل الأفعال الحميدة إلى أنها تهديدات. الافتقار إلى الثقة المتبادلة، خصوصا بين الدول المتجاورة يخلق معضلة أمنية، وهو ما يفسر مبالغة الدول في بناء قدراتها العسكرية وزيادة التسلح، الأمر الذي يهيئ لدوامة من التوجس والاستعداد للتصعيد.
ولكل حرب مداها وعمقها اللذان يشكلان حدة خطرها، فتصادم الإيديولوجيات هو أكثر الحروب شراسة ووحشية حيث يخشى كل جانب أن يؤدي انتصار عدوه في الحرب إلى تهدد أسلوب حياته، ومعتقداته، وثقافته وعاداته وتقاليده، ويفضي هذا إلى الشعور بالتهديد الوجودي، حيث يُنظَر إلى التسوية على أنها مستحيلة. وعندما يصل الأمر إلى التهديد الوجودي تصبح جميع الأسلحة مشروعة، ولا ينظر إلى الخصم بكامل إنسانيته، بل قد يجرد من أبسط مقوماتها وينظر إليه كوحش بشري. إذا صاحب الحرب الأيديولوجية تسلح إحدى القوتين بأسلحة الدمار الشامل وخاصة الأسلحة النووية، فإن جنون العظمة المصاحب بعدم الثقة، يزيد من خطر سوء التقدير ومن ثم اندلاع حرب نووية لا تبقي ولا تذر.
السياسيون يستثمرون في الخوف لحشد الدعم لأجندتهم، حتى لو كان ذلك يعني المبالغة في التهديدات، وشيطنة الأعداء، ويستخدمون وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في تضخيم الخوف من خلال التقارير المثيرة أو التغطيات المتحيزة، مما ينتج رؤية مشوهة للواقع وزيادة القلق العام، ومن ثم تبرير العمل العسكري، وهو ما يفعله تماما بنيامين نتنياهو الذي يقود شعبه والمنطقة لتصعيد خطير يعرض الأمن والسلم للخطر.
الخوف وصراع الأيديولوجيات وضمان عدم المساءلة وامتلاك القوة المفرطة والتلاعب بالمشاعر عبر الإعلام ممكنات مهولة لتفجير النزاعات والحروب وتفاقمها لأتفه الأسباب.
حرب الدول وحرب الكلب الضال يمكن أن يتكررا على نطاق واسع وبوحشية أكبر في منطقة الشرق الأوسط في ظل هذا التصعيد الذي تتعاضد فيه كل الممكنات لتهيئة لرفع وتيرة التصعيد.
نعيش حقبة زمنية مشحونة بالصراع الأيديولوجي، والعرقي والوجودي، وتنفخ كيره وسائل إعلام واسعة الانتشار، وتغذي طاقة الكراهية فيه شبكات التواصل الاجتماعي، في ظل نظام عالمي متحيز، وعاجز، وتفش مبرر للخوف، وتشويش كبير في الرؤية مما يتيح مجالا واسعا للحسابات الخاطئة التي قد تنزلق بالمنطقة والعالم إلى مصير مجهول.