أ.د.عثمان بن صالح العامر
ليس هناك اليوم أعز ولا أثمن وأغلى من «الحقيقة» أياً كانت عقدية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو شخصية أو.. قلّ طالبها، وكثر حاجبها، فالكل في عالمنا المعاصر - صغيراً كان أم كبيرا، ذكراً أو أنثى، عالماً أو جاهلاً - صار له قناته بل قنواته التي يتكلم بها ويكتب، يصور ويروج، ليلاً ونهاراً، سرا وجهارا، ولهذا المغرد أو السنابي أو الانستغرامي أو.. متابعوه المعجبون به أو بها الذين يصفقون له أو لها، ويزمرون بطريقة تقنية حديثة، حتى يظن هو بنفسه أنه صاحب الصوت الذي يعلو على كل الأصوات، وربما صدق هذا الغر النكرة كذبته التي طارت في الآفاق حين رأى وقرأ ردود الأفعال التي انهالت عليه من كل حدب وصوب بعد أن كان لا يسمع له أحد، ولا يكترث بما يقول أقرب الناس منه حتى ولو كان ما تفوه به صدقاً فكيف وهو يتكلم بما لا يفقه؟.
وإذا كان الكذب والتزوير في الحقائق كله شر فإن أشده الكذب على الله ورسوله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».
ويأتي تباعاً الكَذِب المتعدّي الذي ينال فيه الكاذب من الرموز وأهل الحل والعقد في وطننا المعطاء المملكة العربية السعودية وعلى رأسهم ولاة الأمر القادة والحكام، وكذا العلماء الربانيون، وأهل الرأي المصلحون و...لأي سبب من الأسباب كان تجنيه عليهم وقوله فيهم.
ومن الكذب المتعدي الكذب الذي يخدع فيه صاحبه الناس ويضر بهم كالترويج لمنتج ليس على الحقيقة، أو كيل المديح لشخص لا يستحق كل هذا الثناء، سواء أكان هذا الصنيع من المادح من أجل الشهرة والانتشار أو لقبض الثمن الموعود به هذا المسوق أو المهايط - شعراً كان ما قاله أو نثراً عبر حسابه الشخصي أو تحت حساب واسم مستعار - مالياً كان هذا الثمن أو عينياً وربما معنوياً.
ومن الكذب الممجوج والمنهي عنه الكذب من أجل إضحاك الناس، فقد أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له». حتى الناقل لما يقال ليس معفياً من المساءلة ومن ثم العقاب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» ولذا فكل منا لابد أن يعمل عقله قبل أن يتكلم بما وصل إليه صورة أو صوتاً أو كتابة أو رمزاً، فقد عاب الله عز وجل على قلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم في حادثة الإفك المعروفة كانوا يتلقون ما قيل في حق زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر- رضي الله عنهما-، وفي الصحابي الجليل صفوان بن المعطل- رضي الله عنه- باللسان دون أن يدخل كل منهم ما وصل إليه من معلومة مكذوبة (فؤاده) من عند الأذن - مصدر التلقي الأساس - ثم يعمل فيه عقله وبعد ذلك يتحدث بها عن طريق اللسان أو يصمت، ولذا حين برأ الله عز وجل أم المؤمنين- رضي الله عنها- مما قيل فيها أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُحد ثلاثة من الصحابة الخُلّص حد القذف، فجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأنهم نقلوا ما قيل في عرض عائشة دون أن يعملوا العقل فيه مع أنهم لم ينشئوه ويبتدعوه ابتداءً.
في المقابل سجل التاريخ ما كان من أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وزوجه رضي الله عنهما، فقد دخل هذا الصحابي الجليل دارهُ، فقالت له زوجتُه: «أما تسمعُ ما يقولُ الناسُ في عائشة؟! فقال: نعَم، وذلك الكَذِب، ثم قال: أكنتِ فاعلةً ذلك، يا أم أيوب؟ يعني الوقوع في الفتنة، قالت: لا والله، فقال: فعائشة واللهِ خيرٌ منكِ وأطيب».
خلاصة الكلام، علينا أن نبحث عن الحقيقة وسط ركام الكذب الذي تعاظم في عالم اليوم فصار كالجبال الراسيات جراء اجتراء الناس عليه واستسهالهم به ووجود من يتقبله ويصدقه دون أن يعمل عقله فيه، بل يتبناه ويروج له بلا دليل ولا برهان، وربما كان البرهان العقلي والدليل النقلي خلافه وضده، وبهذا نقضي على الشائعات في مهدها حتى لا يجد الجيش الإلكتروني الذي يتخذ الخداع والكذب والتدليس مطية له طريقاً إلينا، ولا يستطيع الطابور الخامس أن ينفذ من بين لبنات صفنا الوطني المتراص. حفظنا الله عقيدة وقيادة وعلماء وجنوداً وشعباً، وحمى بلادنا أرض الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية وبلاد المسلمين، ودمت عزيزاً يا وطني، وإلى لقاء.. والسلام.