د. محمد الحربي
لقيتُهُ، ليتني ما كنتُ ألقاه!
لقيتُهُ وقد أثقلتْ كاهلهُ الهموم، بعد أن أثقلت ظهره الدروس والتحاضير، والأقلام والتعاميم، وتواقيع الانصراف والحضور!
لم يكن كعادته، ولا على طبيعته ولا على سجيته المرحة الباسمة!
قلت له: خيرا يا أبا الرجال وسيد الأبطال، ما لي أراك كسيفا وأسيفا، كأنك لست صديق الأمس، ورفيق الأنس!
قال - وملامح الأسى تنطقُ قبل كلماته وبين نبراته - سأخبرك وأحكي لك القصة، لعل باقي زفراتي وحسراتي تسافر، ومن صدري المكلوم تغادر.
القصة أسردها باختصار، فأنت ممَنْ يكرهُ الانتظار ويحبُّ دويَّ الأخبار!
في أواخر العام الدراسي، جلستُ متكئاً مسامراً أفكاري محاوراً خواطري.
قلت: لقد أمضيتُ في التدريس ما يقرب من ربع قرن من الزمن، لم أتغيبْ عن المدرسة إلا أياماً معدودة، إما لتعب ظاهر أو ظرف قاهر. ولله الحمد.
أتعبُ لأقدمَ للطالب حقَّهُ الذي جاء من أجله، أعطيه من التوجيه ما ينفعه، لا أطلب منه المستحيل، ولا أتنازل عن المستطاع..
بعد هذه السنين الطويلة، وبعد أوجاع تلمُّ بي في بعض الأحيان، قررتُ أن أغير الطريق وأحول المسار إلى مجال آخر غير التدريس، لا سيما وقد وصلتْ بعض التعاميم التي تحث الراغبين على التقديم.
استبشرتُ، ورحتُ أجمعُ الأوراق والدورات والشهادات - مع أني أقول كل الدنيا تغيرت وتطورت، والتقديم عبر ضغطة زر، وشهاداتك وكل ما يخصك ترفقها وترفعها بطرف إصبع!
فلِمَ كلُّ هذا التعقيد والتعب وخاصة -على مربي الأجيال وصانع الرجال - عموما جمعتها ووضعتها في ملف، بعد توقيع وتزكية مدير المدرسة الموقر، اخترت أن يكون لونه أبيض، تفاؤلاً بالتسهيل والتيسير.
انتظرتُ خيوط الصبح بفرح واستقبلت المدرسة بأمل، وفي وقتِ فراغي حملتُ ملفي على عاتقي متوجهاً إلى المكتب الذي تتبعه مدرستنا، لم يطل الطريق حتى وصلتُ، وكلي أملٌ وتفاؤلٌ، سألت عن المسؤول عن استلام الأوراق وقبولها واكتمالها؟ فدلوني على مكتبه، فتوجهتُ إليه باسطاً وجهي وملفي إليه، بعد أن ألقيت السلام والتحية عليه!
لكنه رفع يديه!
واعتذر بأن الوقت انتهى من زمن بعيد، وإن آخر التقديم يوم الأمس، ولا يمكن بحال نستقبل الملفات، واعتبِرْه من السابع من المستحيلات!
قلت له: هداك مولاك، إني لدي من الأعمال ما أذهلني عن نهاية موعد تقديم الملفات، وإغلاق التقديمات، ولعلك تعذرني وتسامح غلطتي وتأخري، فقال: لا لا، لا يمكن ألبتة، وغيرك كثير!
قلت له: اقبله ولك الشكر والدعاء، وربما يأتي غيري وله معرفة وقرب!
فيشفع صاحب القرب لمن لا قرب له!
رفض وأنكر، لم تشفع عنده كلماتي، ولا وريقاتي، ولا شهاداتي التي من ضمنها رسالة ماجستير دفعتُ لها الكثير من جهدي ووقتي!
في نهاية الموقف قلت له :أهنئك على احترامك للوقت والموعد والنظام، ولكني أتمنى أن تطبقه على الجميع، رد بنعم، هو عليك وعلى غيرك.
من الغد جئتُ للمدرسة متقبلاً راضياً ولله الأمر والتقدير، ولكني سألتُ أحد الزملاء: -وكان يريد التقديم معي كذلك- إن كان قد لحق التقديم أم لا ؟
قال: ما زلت أكمل أوراقي إلى الآن، فقلت له: لن أكسِّرَ مجاديفك؛ ولكن أخبرك أن التقديم قد أقفل، استغرب؛ ولكنه قال: سأحاول، وأذهب إليهم اليوم أو غدا، إن شاء الله، قلت له:
بالتوفيق، وأنا أحدِّثُ نفسي كيف ينجو من ذاك الأسد الهصور على باب التقديم!
في آخر اليوم الثاني قابلني ذاك المعلم وأخبرني أنهم قبلوا أوراقه، دعوتُ له بالتوفيق والسداد.
فقلت في نفسي:
لعل ذلك الموظف الأسد لم يكن موجودا، واستقبله آخر أسمح منه نفسا وألطف تعاملا!
أو أنهم قبلوه شكلاً لا مضموناً، ولعلَّ المعلم الزميل شك في مدى صحة قبول ملفه، وبدأ يتساءل هل سيصل الملف إلى طريقه أم يتوقف لتأخره.
رضيت بقدر الله، وقلتُ لعل الله قدَّر خيرا.
قبل الختام، وبعد أسابيع من التقديم نسيتُ أن أخبرك أن المعلم الزميل قد أعلن اسمه اليوم مرشحاً من ضمن المرشحين، وفقه ربي وأعانه.
لم أتألم لأجل الزميل وترشيحه، بل والله فرحتُ له كثيراً ودعوتُ له كثيرا؛ لكن ما أحزنني وزاد ألمي أن ذلك الموظف وقف في طريقي و ربما في طريق غيري.
نسأل الله أن يهديه!
هذا ما رأيتَهُ عليَّ من ألم!
وسطرته أنا بقلم!