خالد بن عبدالرحمن الذييب
كان للوزير أبي عبدالله العارض وزير ابن عضد الدولة البويهي مجلساً يُقام بشكل دوري، وكان من جلسائه المهندس/ أبو الوفا محمد البوزجاني، وهو أحد الائمة المشاهير في علم الهندسة في زمانه. كان للبوزجاني فضل على أبي حيان التوحيدي في إتاحة الفرصة بالدخول لمجلس الوزير، وحيث إن التوحيدي كان فيلسوفاً متكلماً أوتي منطقاً وعذوبة لسان، عالماً بفنون الأدب وعلوم الكلام فقد أُعجب الوزير بحديثه، فأصبح لا يأتي البوزجاني إلا ويأتي معه التوحيدي، وشيئاً فشيئاً تعوّد التوحيدي على أن يأتي مجلس الوزير وحده، بل وحتى الوزير لم يعد يحرص كثيراً على البوزجاني، فتطورت العلاقة بين الاثنين الوزير والفيلسوف وضاع بينهما المهندس!
أحس البوزجاني بشيء من الإهانة ونكران جميل، وربما الغيرة بسبب هذه العلاقة فكتب له رسالة عتب كان من ضمنها: «وجهلت أن من قدر على وصولك، يقدر على فصولك، وأن من صعد بك حين أراد، ينزل بك إذا شاء، وأن من يُحسِن فلا يُشكر، يجتهد في الاقتصاد حتى يُعذر».
قد يرى البعض أن تصرف البوزجاني غريباً محتجاً بأن هذه أمور لا تحدث بين الرجال، ولكن التوحيدي حكّم عقله وفلسفته وخبرته الحياتية، وقدّر هذا الشعور الإنساني الطبيعي من صديق رأى أن صديقه خذله، وبدأ بنسيانه، ونسيان فضله عليه، وأن ما قام به البوزجاني ليس إلا تقديراً ومحبة له، سواء في إدخاله على الوزير أو في عتبه عليه، وربما كان رغبة في تقدير الذات من قبل البوزجاني، كل هذه أمور قدّرها التوحيدي وتعامل معها، فما كان منه إلا أن رد على صديقه برسالة بليغة مضمونها شكره وتقديره وعدم نكران فضله، بل وزاد على ذلك أن قرر كتابة كل ما دار بينه وبين الوزير، في رسالة لصديقه يؤكد فيها أنه لا يوجد شيء يخفيه عنه، فكان النتاج كتاب «الإمتاع والمؤانسة» والذي يُعد أحد كنوز التراث الأدبي الإسلامي.
وفي حالة أخرى، كتب المتنبي قصيدة يعاتب فيها سيف الدولة الحمداني على تأثر علاقته معه نتيجة الوشاية والحسّاد، يقول في مطلعها:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
وعبّر عن شيء من الغيرة بسبب علاقة سيف الدولة بأبي فراس الحمداني حين يقول:
ليت الغمام الذي عندي صواعقه
يزيلهن إلى من عنده الديم
مشبهاً ما يحدث له من تجهم سيف الدولة بالصواعق التي تأتي مع الأجواء الماطرة، مقارنة بالوداعة وحسن التعامل مع أبي فراس والذي شبهه بالديم الخفيف فهو يقول ليت هذه الصواعق التي تأتيني تذهب إلى من عنده المطر الخفيف والديم اللطيف.
أخيراً..
للرجال مشاعر، فالصداقة -إن وفقت بصديق- كنز لا يفنى..
ما بعد أخيراً..
ليس كل غيرة الرجال إيجابية.. فبعضها.. إنهاء..