أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
كان يوم المناقشة في مسيرة الأجيال الأقدم من طلاب الدراسات العليا كيوم الحساب، يكشف فيه عن المحاسن والمساوئ، ويجازى الطالب بما يستحق من درجة. هو يوم ثقيل ينتظره الطالب بمزيج من الرغبة والرهبة والترقّب والخوف والقلق، ولا بد لذلك اليوم أن يكون كذلك إذ كانت المناقشات جادة صارمة دقيقة يحاسب فيها الطالب على كل كلمة كتبها في رسالته ويكشف فيها عن جوانب النقص ومواضع الخلل، ومع قسوتها يخرج منها الطالب والحاضرون في القاعة بلطائف علمية كثيرة، وأتذكّر أنني كنت أجلس في القاعة عند مناقشة بعض زملائي الذين سبقوني وأدوّن ما أسمع من فوائد.
ولكن دوام الحال من المحال، فقد انحرفت المناقشات اليوم عن مسارها وفقدت هيبتها وقيمتها وبركتها ولم يعد يحضرها إلا بعض خاصّة الطالب، وصار عنوانها الروتين الممل والمجاملات، مجاملة المشرف ومجاملة الطالب. هكذا صارت فينبغي إعادة النظر في ضوابطها وشرائطها وآلياتها. ولي في هذا الشأن ورقة شاركت بها في ندوة «التحكيم العلمي أحكام موضوعية أم رُؤى ذاتية» التي أقيمت في جامعة الإمام محمد بن سعود، عام 1428هـ، عنوانها: (مناقشة الرسائل العلمية: أهدافها وضوابطها) ونشرت ضمن السجل العلمي للندوة.
هذا حال المناقشات في أقسامنا بل في الوطن العربي بل في العالم كله، مع اختلافات يسيرة، ثم قرأت وصفا لطيفا للمناقشات كتبه الدكتور محمود الطناحي تناول فيه طرفا من أحوالها في جيل الرواد الكبار الذين سبقوه، قال: وأول ما يلقاك من ذلك في الماضي تلك الهيبة الخاشعة التي تحفّ بأعضاء هيئة المناقشة حين يدخلون القاعة؛ لأنهم قضاة، ومجالس القضاء مصحوبة دائمًا بمظاهر الجلال والوقار، ويظلّ أعضاء المناقشة مدّة المناقشة كلها على هذا الحال من الجدّ والصرامة.
وقال: أذكر يومًا حضرت فيه مناقشة، وكان رئيس الجلسة الأستاذ عباس حسن، رحمه الله، وكان فيه بأو وصرامة، وحين استقرّ على المنصة هو وزميلاه نظر فوجد باقاتٍ من الورد أمامه وأمام الطالب، فاستدعى العامل، وقال له: ارفع هذا، هل نحن في فرح؟
وقال: ويسري هذا الجد إلى الحضور جميعهم، فلا كلمة ولا تعليق، ولا تسمع إلا همساً، وإذا بدا للطالب أن يتظرّف ليخفف من حدة مناقشة، أعيد بقسوة إلى حالة الوقار والجدّ، أذكر مرة للأستاذ عباس حسن، أيضًا، أنه ورد على الطالب ملاحظةٌ تتصل بالدقة في نقل الأرقام من المصادر، فقال للطالب: أنت ذكرت رقم الصفحة (245) والصواب: (254)، فقال الطالب: لا بأس يا أستاذنا، فقد حصل فيها قلب مكاني! فما كان من الأستاذ عباس حسن إلا أن نهره بقوة، وقال: عيب يا ولد! (القلب المكاني في علم الصرف هو تقديم حرف على حرف، ومثاله في الفصحى: جذب وجبذ، وجاه ووجه، وفي العامية: أرانب وأنارب، ومسرح ومرسح، وزنجبيل وجنزبيل).
ثم لم يكن يُسمح فيما مضى لأحد من الحضور أن يعلق على ما يدور من مناقشة، بل لم يكن الحديث يتجه إليهم أصلاً، وإنما الكلام بين المناقشين والطالب ليس غير، ثم لم يكن يسمح للأطفال بحضور تلك المناقشات.
قال: أما اليوم، فالأساتذة يدخلون في موكب بهيج من الضحك والانبساط والتطلّق، ويسري هذا إلى الحضور، فترى القاعة تموج بالانشراح والبهجة والتعليقات الحلوة، والأطفال يتقافزون ويمرحون في القاعة، وقد جيء بهم ليروا (بابا) في يوم عُرسه، والنساء يزغردن عند إعلان النتيجة، بل إني سمعت إحداهنّ تنشد لقريبها الطالب:
يا شجرة يا حلوة يا مفرعه * شرفت أعمامك الأربعه
وهكذا والله. قال الطناحي: ثم تجري المناقشة مصحوبة أيضًا بتلك الحال من البهجة والتطلّق، والمزاح مع الطالب، ونعم نحن نتبسط مع أبنائنا في المرحلة الجامعية الأولى، بلون من المفاكهة، لندفع عنهم أسباب الملال، ثم لنغريهم باستقبال ما يرد عليهم من ألوان العلم، أما في هذا اليوم الكبير فلا، وإن جاء شيء من ذلك فيكون في أضيق الحدود.
قال: وأسوأ ما يكون هو التوجه إلى الحضور بنوع من طلب الرضا والاستحسان، أو التماس والتأييد والنصرة، وكل ذلك يجرّ إلى المشاركة في المناقشة، وهذا عيب قادح فادح، فالكلام في هذه المواطن إنما يكون للجالسين على المنصة والطالب ليس غير.