أ.د. محمد خير محمود البقاعي
لقد سعدت كل السعادة بمعرفة الباحث محمد الفيصل (راعي تمير)، محب الرحالات والرحالين الذين كتبوا عن الجزيرة العربية بمختلف اللغات يبذل كل ما يمكنه بذله لامتلاك نصوص رحلاتهم ويسعى بها إلى من يتوسم فيهم القدرة والاهتمام بالترجمة لتخرج للناس، وله مشاركات مفيدة في الكتابة عن التاريخ المحلي من خلال الرحلات وكتب المستشرقين. وما زال حتى اليوم يتواصل مرسلاً ما يمتع ويفيد.
أما الرائد والمثقف ذو الفكر النير، الصديق الصدوق والأخ الذي تستطيع الاعتماد على شهامته وكرمه في كل حين فقد كان ذا رؤية تاريخية رصينة استفدت منها وقد كنت أستشيره في كل حين؛ إنه الأستاذ عبد الرحمن فيصل المعمر (أبو بندر) رحمه الله وأكرم مثواه، وكان من فضله المعتاد أن ذهب بي في أول زيارة لي للطائف إلى منزل الأستاذ الباحث والمؤرِّخ الفذ والإعلامي الرصين الأستاذ حماد السالمي يحفظه الله ودار بيننا حديث كان رصيداً لي فيما أنجزته عندما ترجمت رحلة شارل ديدييه.
وعندما تُذكر الرحلات يتبادر إلى ذهني عفوا ذكر الشيخ الجليل محب الرحلات والمتضلع منها ومن أزمنتها وأصحابها الشيخ عدنان العوامي حفظه الله الذي تعرفت عليه لسنوات خلت في مجلس الشيخ حمد الجاسر محاضراً ومستمعا وزائرا كلما سنحت له الفرصة.
أما طليعة جيل الشباب في قسم التاريخ في جامعة الملك سعود فعرفت منهم الأستاذ الدكتور سامي بن سعد المخيزيم الذي عرفته شهما كريما بارعا في إتقان العلم المفيد والود الصادق وهو اليوم خير خلف لخير سلف في رئاسة الجمعية التاريخية. كان لكل من ذكرتهم إسهام في الإفادة والاستفادة كما هو شأن رجال العلم والمودة.
وفي ختام شؤون الأعلام وما تعلمته منهم أجد من باب الوفاء أن أذكر بكل الود زميلين كانا في مركز الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها عندما تشرفت بالانضمام إليه عام 2019م بإشراف وحرص من الأستاذ الدكتور عبد الله ناصر السبيعي حفظه الله الذي قال لي عندما أصر على التحاقي بهم: نحن جميعا نمثل الجانب التاريخيّ وحضورك يفعل الجانب الحضاري، وكان ذلك حجة بليغة ذكية منه. الزميلان اللذان عملت معهما في المركز أولهما الصديق الدكتور أحمد عطوة الذي كنت شاهدا على حصوله على الدكتوراه من قسم التاريخ بعد سنوات من لقائي به لقاء عابرا في مكتب صديقي الراحل عبّد الله بن إبراهيم العسكر رحمه الله. كان الدكتور أحمد مخلصا في عمله أتقن التقنيات الإلكترونية، تكتشف لديه حب التعلم والسعي إلى الإنجاز في إطار من الطيبة واحترام العلم وأهله. أما الصديق الأستاذ وليد نصر الله التونسي الشهم المجاز في التاريخ من الجامعة التونسية، ومدرس التاريخ فكان نموذج العقلية النقدية التي ترى الأشياء من منظورها المعرفي، كان يجهر برأيه ما دام الأمر متعلقا بالجانب العلمي والجمالي والتقني وقد قضينا أيام إنجاز وإتقان ظهرت فيما أنجز إبان اجتماعنا في مكتب واحد ناهيك عن الجانب الإنساني في العلاقة مع الآخرين.
تلك كلمات هي وليدة تجربة علمية في مجال لا أخجل من القول إنني من الهواة فيه حاولت إرضاء ذاتي أولا عبر الخوض في شؤون علم التاريخ وشجونه.
ولا أود الخروج من هذا السرد المحبب إلى النفس دون أن أعرض لذكر كتب أخرى كانت بضعة من ذاتي التي اكتشف القارئ المتتبع بعض سماتها في وضع التعلم والمعرفة في المقام الأول إبان مساري الذي كانت بوصلته تتجه دائما إلى التعلم وتقديم الممتع والمفيد.
تتبعت ما كتبه الفرنسيون في سلسلة من البحوث المحكمة والترجمات التي لقيت بحمد الله قبولا في الأوساط العلمية والثقافية أذكر من الكتب المهمة كتاب: «جزيرة العرب، أرض الإسلام المقدسة، ومهد العروبة، وإمبراطورية البترول»، تأليف جان جاك بيربي، العبيكان، الرياض، 1423هـ/2002م. وهو كتاب يحتوي على معلومات في غاية الأهمية وكان قد ترجم في لبنان ترجمة تجارية أفسدت رونقه الذي عاد إليه في الترجمة الجديدة بشهادة نخبة من المؤرخين والمترجمين.
وأود هنا الإشارة إلى مرحلة مهمة من تاريخ الأوضاع الصحية في الحجاز قبل أن يضمها الملك المؤسس رحمه الله ومعاناة الحجاج المسلمين القادمين من أصقاع الدنيا. كانت الدولة العثمانية عاجزة عن معالجة انتشار الأوبئة فتترك الحجاج لمصائرهم وقدرتهم على مقاومة الأمراض والكوليرا على وجه الخصوص فاستغلت ذلك الدول الاستعمارية الكبرى آنذاك (بريطانيا، فرنسا، هولندا) فضلاً عن تركيا. وكانت هذه الدول ترسل المبعوثين المتخفين والجواسيس الذين يدعون الإسلام لدخول مكة المكرمة والمدينة النبوية وكتابة التقارير السرية عن أوضاع الحجاج، بل إن فرنسا على وجه الخصوص كانت تعد نفسها دولة إسلامية لكثرة ما تستعمره من بلاد الإسلام وتدعي أن هؤلاء الحجاج يذهب كثير منهم بعد رحلة الحج إلى فرنسا فينشرون وباء الكوليرا في فرنسا التي ينبغي عليها حماية مواطنيها والمستعمرات. فدعت هذه الدول إلى مؤتمرات صحية كانت الدول العظمى تفرض فيها إرادتها.
واستمر الوضع الصحي المأساوي ومؤتمرات التآمر على مقدسات المسلمين بحجة انتشار الأوبئة وانتقالها حتى ضم الملك عبد العزيز طيب الله ثراه الحجاز عام 1344هـ - 1925م فبدأ جلالته رحمه الله بمعالجة الوضع الصحي المتداعي ولا إنسانية الحجر الصحي الذي بدأ يشهد تطورا ملحوظا دونته المصادر المحلية والمنصفون من ممثلي الدول الأخرى.
كانت الكتب والأبحاث التي ترجمتها شاهدا على هذا التحول الصحي الملموس وأول الغيث كان التقرير التي تناول مرحلة ما قبل الضم: وهو بحث كتبه الطبيب الفرنسي أخيل أدريان بروست
Achille- Adrien Proust (1834-1903)
والد الروائي الفرنسي الشهير مارسيل بروست (1871-1922) Marcel Proust بعنوان: «الحج إلى مكة المكرمة وانتشار الأوبئة»، ونشر في مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية، المجلد الثامن، العدد الأول، محرم-جمادى الآخرة 1423هـ/مارس-أغسطس 2002م.
لقد اتضح لي بعد حين أن هذه المقالة هي اللبنة الأولى من كتاب جامع ألفه بروست عنوانه كما اكتشفت لاحقا «الاتجاه الجديد للسياسة الصحية» وهو كتاب صدر بالفرنسية عام 1896م. ويبدو أنه ترجم إلى اللغة العثمانية بقلم المترجم أحمد نرمي ترجمة مخطوطة في جامعة إستانبول يوجد صورة منها على ميكروفلم في مكتبة الملك فهد الوطنية كتب عنها الصديق الأستاذ الدكتور سهيل صابان مقالة تفصيلية في مجلة الفيصل بعنوان: «رحلة بروست إلى الحجاز عام 1893م»، مجلة الفيصل، ع 270 (ذو الحجة 1419هـ/أبريل 1999م).
والحقيقة أن بروست زار جدة وحدها في إطار مهمته للبحث في انتشار الكوليرا، وعلى الرغم من الجهود والمراسلات والاستشارات التي تحدث عنها في المقالة لم يستطع الدكتور صابان الوصول إلى عنوان الكتاب الذي ترجمه نرمي. ولعله من محاسن الأمور أنني كنت قرأت واحدة من الرحلات الفرنسية إلى الحجاز للرحالة الفرنسي جرفيه كورتلمون الذي سبق القول إنه أسلم وحمل اسم «عبد الله البشير»، وعنوانها: «رحلتي إلى مكة» تضمنت ملحقا عن الأوضاع الصحية في الحجاز نقله كورتلمون من كتاب بروست الذي سماه:
«الاتجاه الجديد للسياسة الصحية، المؤتمرات الصحية الدولية (فينيسيا، دريسدن، باريس)، تنظيم المراقبة»، دار نشر موسون 1896م، 456 صفحة =
L›orientation nouvelle de la politique sanitaire: conférences sanitaires internationales (Venise, Dresde, Paris), règlement de police Masson, 1896,456 pages.
ولما علمت بهذه التفاصيل طلبت صورة من المكتبة الوطنية الفرنسية بمساعدة دارة الملك عبد العزيز، ولما حصلنا عليها بدأت في ترجمة استغرقت وقتا وجهدا لم أبخل بهما لتأتي الترجمة على ما اعتدت عليه من دقة وتدقيق. ولكي تكتمل لوحة الأوضاع الصحية في الحج وما طرأ عليها من تطور ملموس بعد ضم الملك عبد العزيز رحمه الله الحجاز ولجم التدخل الخارجي الذي كان مدخله المؤتمرات الصحية.
وظل الكتاب الذي تقاضيت عليه مكافأة الترجمة مخطوطا في الدارة حتى يوم الناس هذا.
كان لا بد من كتاب يعالج الوضع الصحي بعد أن ضم الملك عبّد العزيز طيب الله ثراه الحجاز فوجدت
كتابا للطبيب الفرنسي «فيرمان ماري لويز- دوغيه» Firmin Marie-Louise Duguet(1876-1944م).
وكان يشغل منصب المفتش العام بمجلس الحجر الصحي الدولي في الإسكندرية، وعنوان كتابه: «الحج إلى مكة: من وجهة نظر دينية واجتماعية وصحية»، نشر في عام 1932م =
Duguet, Firmin. Le Pèlerinage de la Mecque au point de vue religieux, social et sanitaire. Paris, Rieder, 1932
وكتبت عنه تعريفا في مجلة «العرب»، مج41، ع11-12، 1427هـ-2006م، ص 826-916.
وقلت في مقدمة الترجمة: إن المشهد الصحي، كان مريعا لما كان يحصل من تجاوزات شخصية وصحية وأمنية على الحجاج، حتى دخل الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- الحجاز فتغيرت الأحوال صحيا وأمنيا كما سجل فيرمان دوغيه في كتابه: «الحج من وجهة نظر دينية واجتماعية وصحية» الذي يتميز بأنه يتحدث عن التطور الجذري الذي حدث في الحج بعد دخول جلالة الملك المؤسس عبدالعزيز الحجاز وخصوصا في الأعوام 1925-1930م، وفي الكتاب إحصاءات وتقارير في غاية الأهمية. ولم ينشر حتى الآن.
ومما رسخ في الذاكرة من أمور الصحة التي قرأتها في مقالة بروست وكتابه أن بعض المفتشين الصحيين ادعى أن لحوم الأضاحي التي تدفن في مشعر منى تتعفن وتسبب الكوليرا عندما يحفرون في السنة التالية ولكن تحليل تربة منى أظهر أن تركيبتها الكيمائية تحلل الأضاحي المدفونة فلا يبقى منها شيء في السنة التالية.
ومن المعلومات التاريخية المهمة التي ذكرها آخيل بروست أن وباء الكوليرا الذي وُثق ظهوره في الحجاز أول مرة كان عام 1831م، وأنه في عام 1280ه/1863م أنشئ أول محجر صحي في مكة المكرمة، وكان يسمى الكرانتينة. وأن بروست تحدث في مقالته عن وباء عام 1866م.
وما زلت أرى أن هذين الكتابين لو صدرا لكانا وثيقة في غاية الأهمية عن الأوضاع الصحية وتطورها. ولنا لقاء.