د.نادية هناوي
(التخييل ضمن التخييل) أسلوب أدبي، يُوظف في السرد الذي فواعله ليست آدمية، تَروي نفسها بنفسها. ومثلَّت الناقدة سيلفي باترون على هذا الأسلوب بقصة (القتلة) لهمنغواي وتفتتح بجملة( The door of Henry lunch room opened ) وهنري اسم مطعم، والسارد له عين ترى ما هو غير واقعي ولسان يمنطق اللاممكن في تمثيل ما لا وجود له في الواقع الموضوعي. والمحصلة هي تحول غير الواقعي إلى واقعي بطريقة مكثفة ومنطقية إزاء شخصيات يُنظر إليها كأناس حقيقيين يتم التفاعل معهم والتأثر بهم. وما قبول القارئ بأسلوب( التخييل ضمن التخييل) سوى تعبير عن ممارسته التفكير في المجمل المترشح الذي به يُرى ما هو غير واقعي بطريقة المحاكاة، سالكا في تلقي القصة الخيالية مثل سلوكه في تلقي القصة الحقيقية، وهو ما نستطيع تشبيهه بمسرح الدمى فالذين يحركون الدمى يحضرون مع الدمى أمام المشاهد ومع ذلك لا يلتفت هذا المشاهد إليهم ولا يعيرهم انتباها في أثناء تلقي العرض المسرحي. فيكون التفويض طريقا به يوكل المؤلف لسارده مهمة السيطرة على السرد لكن من دون أن يترك الساحة له. وأصل التفويض هو نفاذ وعي المؤلف في وعي السارد ثم نفاذ عقل السارد في عقل الشخصية.
هذا إذا كان السارد موضوعيا، أما ذا كان ذاتيا فسيجعل من نفسه هو الرائي المبصر الملاحَظ والملاحِظ، وبالشكل الذي يجعله جديرا بالثقة. وهو ما يتحقق من خلال المسرود له بوصفه المتلقي الأول. وإذا كان المسرود له في النظرية السردية الكلاسيكية( هو فوق القص الأول أي خارج حكائي والذي هو كذلك شخصية داخل القص أي داخل حكائي..) كما تقول شلوميت ريمون، فإن المسرود له في النظرية ما بعد الكلاسيكية لا يتقاسم التلقي مع المؤلف الضمني والقارئ الضمني وحسب، بل قد يثور عليهما وبما يجعل دوره أكثر مركزية من ذي قبل لاسيما في السرد غير الطبيعي الذي فيها يكون المسرود له مصدرا رئيسا للاموثوقية وعدم التصديق.
وما تفويض المؤلف أمر السرد إلى سارد بضمير الشخص الثالث أو الثاني أو الأول سوى توكيل له بالسيطرة على أطراف السرد الأخرى أو توجيهها وتتمثل هذه الأطراف بالمسرود والمسرود له والقارئ الضمني والقارئ الفعلي.
وتتضح سلطة السارد في رواية( القط والفأر) لغونتر غراس بطريقة نظره بعين القط إلى تفاحة آدم بوصفها هي الرجل كله. فيراها تتحرك كإنسان له ظل يغري القط بالانقضاض عليه. ولكي يضمن السارد لهذه الأحداث تصديقا، يخاطب المسرود له بقصد إقناعه بأن ما يجري من فعل غير معقول ليس سوى عملية مشتركة بينهما، ومن ثم ليس للمسرود له من بد سوى التصديق وإلا فان مصيره كمصير المسرود صاحب تفاحة آدم.
ومع تصاعد خيالية الأحداث يغدو السارد أكثر سيطرة على المسرود له الذي يتقبل حال صاحب تفاحة آدم واثقا من حقيقة ما يجري. ومثل ذلك نجده في قصة (بوسايدون إله البحر) لفرانز كافكا، وفيها ينظر السارد إلى البحر الذي بدا موظفا، يجلس على مكتبه منهمكا في عمليات حسابية، مراجعا تقارير واحصاءات، وأنه – أي البحر- لو عُرض عليه عمل آخر بعيد عن المياه فإنه سيتذمر ويثور غيظه ولن يكف عن التجوال وسط الأمواج، ماسكا شوكته الثلاثية ينتظر نهاية العالم. وفي قصة كافكا (الفأر الصغير) يستبطن السارد مشاعر فأر وقع في المصيدة ومشاعر الفئران التي انتابها الحزن وهي ترى ساق الفأر الصغير الوردية النحيلة منهرسة. وما يجعل هذه المشاعر طبيعية هي سلطة السارد في رسم تفاصيل المنظر، معمقا لدى المسرود له منطقية ما يجري من أحداث. ومن قصص كافكا غير الطبيعية التي فيها تكون للسارد الذاتي غير الواقعي سلطة كاملة قصة( التهجين) وهي تبدأ برسم صورة لكائن من غير الممكن أن يكون حقيقيا. ويحمل السارد المسرود له على المشاركة تارة فيما يقدمه له من معلومات وتارة ثانية فيما يوجهه إليه من أسئلة يفترض أن الآخرين يسألونها وتارة ثالثة بقصدية ما يظهره من دهشة إزاء هذا المخلوق وكأنه ليس من اختراع الكاتب. وتنتهي القصة بمنطقية توجيه السارد للمسرود له وتشارك القارئ معهما.
ويكون الجسر هو السارد في قصة (الجسر) وقد بدا مؤهلا لأن يحكي كإنسان ويشتكي ويعاني، وفي (أقصوصة خرافية) يباغت الفأر المسرود له بجملة ( قال فأر) الاعتراضية مقدماً منظوره للعالم. وما تغير ضمير السرد من المتكلم إلى المخاطب سوى مباغتة ثانية، بها يكسب السارد ثقة المسرود له ومن بعده ثقة القارئ.
وقد يكون السارد الذاتي إنسانا يتكلم مسترجعا ما حصل معه من أحداث عجيبة وغير معقولة، بيد أن المسرود غير العاقل هو الذي يلعب دوراً في توجيه الاحداث، والسبب أن السارد الذاتي يريد من هذا المسرود أن يكون مركزيا يتحكم في الأحداث وانفراجها فيصبح السارد والمسرود له واحداً كما في قصة( طبيب الأرياف) لكافكا، وهي تبدأ طبيعية بفواعل آدمية(الطبيب والسائس والفتاة) لكن الحصان هو المسرود الذي يؤدي دورا مزدوجا فهو تارة ميت وتارة ثانية حي وتارة ثالثة شبح. وبعد سلسلة أحداث غير طبيعية يعود الطبيب إلى البيت بعربة تجرها خيول غير أرضية. وتنفرج الأحداث لكن الطبيب ما يزال تحت تأثير مسروده الذي هو الحصان.
إن التخييل ضمن التخييل تقانة فنية وظيفتها أن تجعل للقارئ دورا في فهم وتفسير ما هو مستحيل، فتغدو الخيالية أو اللامعقولية في السرد غير الطبيعي منطقية ومقبولة. ومن أساليب( التخييل ضمن التخييل) التقاطع والتفويض والانحراف المؤسلب الذي معه تكون للسيناريو أهمية في مركزة دور القارئ الذي يفيد مما لديه من ذخيرة معرفية في تلقي ما يقدِّمه له السارد من معلومات، واضعاً افتراضات قرائية تجعل الخيالي واقعياً وبدلالات مناسبة.