مشعل الحارثي
كنت الأسبوع الماضي في زيارة لمكتبة أخي وصديقي الدكتور ناصر إبراهيم الحارثي وإخوانه بالطائف، وقد لفت نظري وشدني أكثر وقبل أن ادلف الى مبنى المكتبة الرئيس ذلك الفناء الفسيح الذي يشغل جزء منه المكان المخصص لإقامة المحاضرات والأمسيات والمسامرات الأدبية والثقافية، وأماكن الجلوس المريحة المظللة بعرائش العنب. ما اكتست وتزينت به جدران ذلك الفناء من أنواع تلك الأبواب والشبابيك والرواشين الخشبية الفارهة الطول والعرض التي تمثل مظهرا من مظاهر فن العمران التراثي القديم بالطائف، مما أثار في نفسي العديد من التساؤلات عن المغزى من وراء وضع تلك الأبواب والشبابيك، وهل أراد صاحب المكتبة واخوانه أن تكون هناك عتبات وعناوين أخرى للدخول إلى المكتبة؟ فبدأت أستقرئ جوانب هذه العتبات وذهب بي التأمل إلى فضاء الأسئلة التي تستحضر المعاني من عتبة الدرب إلى قصبة القلب، وتنفض الغبار عن القيمة المتوارية في متاهات النسيان ومساحات الزمان .
فإذا كانت الأبواب والشبابيك في حقيقتها ومفهومها لدى الكافة بأنها عنوان لاستقبال الأتي وتمثل خصوصية وحرمة الذات لساكن الدار إلا أنها ايضاً تمثل عيون الدار التي تطل منها على الأخر، وساعتها أدركت وأنا اطيل التأمل في هذه الأبواب والشبابيك وبما تحمله من جمال في الشكل وهندسة ونقوش وزخارف بأنها ليست كما نشاهدها قطع من الخشب والحديد الجامدة فقط بل تمثل حكايات وبصمات ولغة ووجها تتحدث به يحكي قصة ساكني الدار وثقافتهم وأفكارهم وسمات وجوههم، كما تعبر عن تحولات البنية الاجتماعية وثقافتها عبر العصور.
إنّ رمزية الأبواب والنوافذ بأشكالها العديدة وقدرتها الكبيرة على تحويل صمت الجدران إلى كلام تشكل رؤية وتواصل مع الآخر وتكتنز الكثير من الدلالات والمعاني والأسرار.
وكأن الدكتور ناصر الحارثي ومن خلال الرمزية البصرية لهذه الأبواب والشبابيك يريد أن يقول لزوار مكتبته وهو صاحب الخبرة الطويلة في الطب وعمل المستشفيات بأن العين هي أداة من أدوات التفكير البصري وفهم العالم من خلال لغة الشكل والصورة وأنه يريد بذلك أن يشرع أبواب ونوافذ مكتبته ليطل منها الأخرون على عوالم العلم والثقافة والمعرفة الواسعة ليتحقق له مقصودة كما يقول الشاعر المصري محمود خير الله. احصل على النافذة أولاً.. وأنا أضمن لك.. أن القمرَ سيأتي صاغراً معها.. والنجوم.. والشجر سياتي..
وأما الملح الثاني فقد ذهب الدكتور ناصر واخوانه ونقلونا إلى عتبة وزاوية أخرى في ربط النوافذ بالإطلالة على التراث المحلي والتراث العربي والإسلامي وبما يتوافر بهذه المكتبة من ذخائر تراثية نفيسة لا تقدر بثمن مؤكدين بذلك أن الماضي هو مقدمات للحاضر والمستقبل ولابد أن يتماهى التراث مع البعد الجميل للحضارة وأن يتجسد كفكر منهجي وليس كارث جامد.
وعندما انتقلت للخطوة التالية لاكتشف عوالم هذه المكتبة ومضمونها وهل تستحق كل تلك المقدمات والدلالات الايحائية صحبني الأستاذ منصور الحارثي مدير المكتبة والقيم على شئونها وتنظيمها في جولة خاطفة ليطوف بنا على جذور المعرفة وخير جليس في الزمان، ونبحر معه على قماشة الفكر بحبر من اسسوا وأبدعوا ودونوا وتركوا لنا قطوفاً من العطاء وهو ما يستوجب منا الترحم على من قضى منهم والدعاء لمن بقي يأخذنا إلى مدارات الأفق وبساتين الروح وحلقوا بنا بلسان عربي مبين.
ومنذ ولوجي للمكتبة وللوهلة الأولى هالني ما وجدت بها من كنوز ومخطوطات وشروحات وموسوعات وكتب نادرة وقديمة لا توجد اليوم بالمكتبات أو حتى معارض الكتاب وقد تجاوزت في مجملها أكثر من (30) الف عنوان في أكثر من (50) الف مجلد موزعة على عدة اقسام وقاعات منها قسم العلوم الشرعية ، وقسم للقضاء وقسم اللغة وآدابها ، وقسم للإدارة وتطوير الذات ، وقسم للتاريخ والتراجم والجغرافيا ، وقسم للطب والصيدلة ، وقسم للطفل، وقسم للتعليم ، وجناح خاص بكتب محافظة الطائف ، الى جانب ما يتوفر بها من مئات المجلات المحلية والعربية الحديثة والقديمة ، وعشرات الموسوعات المتنوعة علمية وفنية وأدبية وفقهية ومنها موسوعة في القضاء ، وموسوعات للأطفال باللغة العربية واللغة الإنجليزية، وقسم للكتب المهداة وغيرها من الأقسام الأخرى التي لم يتم تصنيفها ووضعها في مكانها المناسب ، ثم اخذ الأخ منصور يتنقل بي بين قاعاتها المتعددة التي تخصصت كل منها وكما اشرت في أحد جوانب المعرفة إضافة لما يزين هذه القاعات وفي بعض ارففها أو زواياها من عشرات القطع التراثية المتنوعة ووسط جلسات شعبية اعادت لنا طبيعة جلسات الدور القديمة التي كانت منتشرة في مدن الحجاز فأعطت للمكتبة بعداً ورونقاً جميلاً واطلالة أخرى على بعض الجوانب الاجتماعية القديمة ولتكمل الصورة لتلك الدلالات الخارجية للأبواب والشبابيك.
وفي حديثه أشار الأستاذ منصور بأن هذه المكتبة شبه وقفية وأن اخوانه الكبار كل من الدكتور فهد الحارثي، و الدكتور ناصر الحارثي بدواء وضع نواتها منذ عام 1381هـ أي قبل ما يزيد عن (60) عاماً عندما كانوا طلاباً بمدرسة دار التوحيد بالطائف، وعندما تم ابتعاثهم للدراسة بالخارج عهدوا إليه ليقوم بالعناية بها وتنمية موجوداتها بالشراء او الاهداء حتى أخذت في النمو عاماً بعد اخر ووصلت إلى ما وصلت إليه الآن.
ومع أن المكتبة تعتمد في فهرستها على أسلوب الموضوع كأسلوب مبدئي حتى اكتمال تسكين الكتب في كافة القاعات إلا أنه وحسب حديث مديرها سيتم إعادة تصنيفها حسب طريقة ديوي العشرية إلا أن المكتبة بوضعها الحالي أصبحت مشرعة لاستقبال وزيارة الباحثين والمثقفين ومحبي القراءة والكتاب.
وأضاف الأستاذ منصور بأن من ثمرات ارتياد الزائرين والباحثين وذوي الاهتمام للمكتبة انبثق عنها تكوين مجموعة بحثية تعنى بتاريخ الطائف وآثاره وحضارته، وصدر أول إنتاجها قبل عدة أشهر، وتعمل الان على مجموعة مشروعات بحثية تستهدف تاريخ الطائف وحضارته وتاريخه وبعض الجوانب التي لم يسبق التطرق لها او تناولها من قبل.
وعندما انتهت الجولة وعدت مرة أخرى إلى تلك الساحة الخارجية الفسيحة واكتفيت بما تيسر لي من هذه الاطلالات العابرة ورأيت مكان إقامة الندوات والمحاضرات والامسيات والتي تمثل مسرحاً مصغراً وسبق ان أقيم بها العديد من المناشط والفعاليات الثقافية حتى قفز إلى ذهني مواصلة الاطلالة مرة أخرى من عتبة ثالثة عن أهمية التلازم والتكامل ما بين المنبر والورق، وبين السماع أو القراءة بين الشفاهية أم الكتاب، وأيهما أصبح اليوم أكثر تأثيراً من الأخر في الوعي واللاوعي.
بقي أن أقول وفي الختام أن مكتبة الدكتور ناصر الحارثي واخوانه بالطائف بأبوابها وشبابيكها ومحتوياتها وقبلها روحهم الطيبة وقلوبهم المشرعة بالحب والصفاء والوعي بأهمية الثقافة والكتاب كعمود فقري للنهوض بالمجتمع مازالت تنتظر اكف الطارقين المتعطشين من الباحثين والدارسين لنبع المعرفة وفضاءات الثقافة لينهلوا من معينها العذب وعوالمها التي لا تعترف بالحدود أو السدود.