د.عبدالله بن موسى الطاير
من المفارقات في حياة البشر أنه حتى في مواجهة الكوارث والخطر الشديدين، يجدون طرقًا للضحك، ولا يشكل زمن الحرب استثناءً من ذلك، إذ تحدث قصص وحوادث مضحكة حتى في خضم المعارك تضفي لحظات من البهجة وسط الفوضى العارمة. ومع ذلك فإن تلك الحوادث والمواقف الطريفة لا تغير حقيقة عبثية الحرب، ووحشيتها، وتكلفتها البشرية.
ربما يكون الضحك ذريعة قوية للتكيف، حتى في أصعب الظروف، وهو ما يصدمنا ونحن نرى ابتسامات صادقة على شفاه معذبة في غزة تفاجئنا بها الكاميرات بين حين وآخر، لتعبر عن القوة التي يتمتع بها أهل الأرض والحق وقدرتهم على التكيف والصمود؛ تلك الابتسامات تشبه الرصاص في وقعها على قتلة الأطفال.
ليست اللحظات المرحة وحدها التي قد تقتحم ساحات الحروب، وإنما قد تخلق الحرب بيئة يزدهر فيها الفساد، وإساءة استخدام السلطة، حيث توفر حالة الغبش التي تخلقها الحرب، فرصة مواتية لنجاة الفاسدين من المحاسبة على أفعالهم، خاصة وأن المخاطر العالية جدًا تجعل الناس على استعداد لتحمل أخطار لا يخوضونها في حياة السلم والوادعة.
يروى عن اليمنيين إبان حرب الوحدة عام 1994م بين الشمال والجنوب أن الجنود يتوقفون عن قتل بعضهم البعض في ساعة المقيل ليتبادل المعسكران المتحاربان القات، وهي عادة تسيطر على مناطق الشمال بين منتصف النهار حتى الرابعة عصرا تقريبا، حيث يتحلق الناس حول رزم القات. وعلى نحو قريب من ذلك أوقف الجنود على جانبي الجبهة الغربية الأعمال العدائية تلقائيًا في يوم عيد الميلاد عام 1914م أثناء الحرب العالمية الأولى، وغنوا الترانيم وتبادلوا الهدايا، بل لعبوا كرة القدم معًا، وقد سلط هذا الحدث المؤثر الضوء على الإنسانية المشتركة للمقاتلين، حتى في خضم تلك الحرب الوحشية.
ولأغراض التمويه اتبعت الجيوش في وقت الحروب وابتدعت سبلا غريبة لخداع العدو، ومن ذلك أن الإنجليز جندوا الممثل البريطاني إم إي كليفتون جيمس لتقمص شخصية المشير مونتغمري لإرباك الألمان بشأن خطط الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد شمل ذلك قيامه بجولة في شمال إفريقيا بزيه الرسمي الكامل، متظاهرًا بأنه الجنرال الشهير. أما خلال حرب فيتنام، فاستخدمت بقرة خشبية مجوفة مليئة بالمتفجرات للتسلل إلى قاعدة أمريكية، لكن الخطة فشلت عندما علقت البقرة في الوحل.
ولأن معظم النار من مستصغر الشرر؛ ففي حرب الخنازير 1859م، تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة وبريطانيا بشأن خنزير في جزيرة سان خوان إلى مواجهة عسكرية، ونشر كلا الجانبين قواته استعدادا للمواجهة، إلا أنه لحسن الحظ، سادت العقول الهادئة، وتم تجنب الحرب التي كادت أن تهلك الحرث والنسل بسبب الخنزير المذبوح. وغير بعيد عن هذا السبب التافه الذي كاد أن يسبب حربا بين أمريكا وبريطانيا، تسببت كرة القدم عام 1969م بين السلفادور وهندوراس في إشعال فتيل حرب قصيرة بين البلدين، وعلى الرغم من أن الحرب نفسها كانت مأساوية، فإن الشرارة التي أشعلت الصراع ظلت مصدراً للفكاهة السوداء. أما في الحرب الكورية، فوجدت وحدة مشاة البحرية الأمريكية نفسها بدون سراويل (بناطيل) بسبب خطأ في الإمدادات، وأُجبروا على القيام بدوريات بملابسهم الداخلية حتى وصول الإمداد. وفي تلك الحرب، وتحديدا في عام 1968م، قتل جنود أمريكيون مئات المدنيين الفيتناميين العُزّل، بما في ذلك النساء والأطفال، في قرية ماي لاي، وأشعلت المذبحة الغضب وأججت المشاعر المناهضة للحرب، ومن غريب دورات الزمن أن تلك المشاعر لم يؤججها قتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ المدنيين في قطاع غزة، ولم يشتعل الغضب الكافي لإيقاف الحرب كما حصل في فيتنام؛ كم هو رخيص الدم العربي! وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن فضيحة سجن أبو غريب في عام 2004، أضرت بسمعة الجيش الأمريكي وأشعلت المشاعر المناهضة لأمريكا في الشرق الأوسط، بينما فضائح الجنود الإسرائيليين ضد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال يتم تداولها على أنها أخبار عابرة لا تحرك الضمائر ولا تثير غضب المشاعر الإنسانية.
ولأن الأحداث تستدعي هذا المثال، ففي الثمانينيات، باعت إدارة ريجان سراً أسلحة لإيران مقابل إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين، ثم استخدمت الأرباح من المبيعات بعد ذلك لتمويل المتمردين المناهضين للشيوعية في نيكاراجوا، منتهكين بذلك القانون الأمريكي، وكانت طائرات السلاح تعود من أمريكا اللاتينية محملة بالمخدرات إلى القواعد الأمريكية. وغدا سيسجل تاريخ الحروب موقفا هزليا يحدث الآن بين إيران وإسرائيل، حيث يتبادلان الصفعات في فعل ورد فعل معروف سلفا ومحسوب جيدا، بينما يتم تدمير غزة ولبنان بقسوة ووحشية لا نظير لهما.