نجلاء العتيبي
ماذا عساي أن أقولَ عن كل منظر دمارٍ تلتقطه شاشات الأخبار؟
تلك المشاهد التي تحاصرني، وتُلغي كلَّ محاولاتي للهروب منها.
أَأُغلق التلفاز؛ لأحمي قلبي من ألمٍ لا قدرة لي على تحمُّله؟
أم أنني بذلك أُغمض عيني عن الحقائق المؤلمة التي تلفُّ عالمنا؟
الدمار الذي تُخلِّفه الحروب الأهلية.
ليس مجرد خسائر ملموسة تُدمر المباني، وتُحطم الجسور؛ إنه خراب أشمل يمتدُّ إلى روح الإنسان، وعمق المجتمع.
عندما نتحدَّث عنها، لا نتحدَّث عن خسارة ممتلكات أو موارد فحسبُ، بل عن تشوُّهات عميقة تترسَّخ في وجدان البشر؛ فالحرب تترك ندوبًا لا تندمل، ندوبًا قد لا يراها العالم بوضوح، لكنها تحفر عميقًا في نفس كل شخصٍ عاش أهوالها.
هي ليست مجرد نزاع بين أطراف تتقاتل، إنه انهيارٌ لقيم الإنسانية نفسها، ما كان يجب أن يكون تفاهمًا وسلامًا يتحوَّل إلى كراهية وصراع.
كيف لإنسان أن يقتل أخاه في الإنسانية؟
في الحروب تُطمَس وجوه الرحمة، وتتحوَّل القلوب إلى ساحات معارك داخلية، حيث يصارع المرء ما تبقَّى له من ضمير.
الألم الذي تُخلِّفه الحروب يمتدُّ لكل شيء… إنها تسلب الأمل من عيون الأطفال.
تُدمِّر حلم التعليم والاستقرار، وتُحوِّل المدن إلى مقابر صامتة، كل ركن في مدينة دمرتها الحرب يحمل صوتًا مبحوحًا للحزن والأسى، كأن الطوب المتساقط يحكي قصص الناس الذين عاشوا في هذه الجدران، والذين تفرَّقوا أو رحلوا عن الحياة دون أن يُودِّعهم أحد في الحرب، الموت يصبح أمرًا عاديًّا، لكن كل موت هو في الحقيقة علامة مؤلمة في مسيرة البشرية.
وربما ما يزيد من قسوة هذا الدمار هو أن الحروب تُجرِّد الإنسان من إنسانيته شيئًا فشيئًا، وتتلاشى الروابط العاطفية، فيصبح البقاء هو الهدف الأسمى. ومع ذلك، عندما تنتهي الحرب، ويسود الصمت من جديد، يُدرك الإنسان أنه لم يخسر فقط خصومه أو ممتلكاته، بل خسر جزءًا من ذاته.
الحروب تهزُّ فكرة الاستقرار في صميمها، وتجعل كل شيء هشًّا، البنيان الذي يأخذ سنوات ليُبنى يمكن أن ينهار في لحظاتٍ، وكذلك الثقة بين البشر. بعد الحروب، يصبح من الصعب على المجتمعات أن تعود إلى ما كانت عليه، هناك فِقدان جماعي للثقة بين الأفراد وبين الأمم، وكلما طالت كان من الصعب التئام الجراح.
لكن ماذا عن الأجيال القادمة؟ هؤلاء الذين لم يعيشوا الحرب بشكل مباشر، ولكن يَرثون آثارها؟ إنهم يحملون ذاكرة الدمار في حكايات أهاليهم، وفي الصور المتناثرة عن المدينة قبل الحرب، هؤلاء الأطفال يكبرون في عالم مُشوَّه، حيث الأمل ممزَّق، والفرص محدودة، وبدلًا من أن يروا العالم كمساحة واسعة مليئة بالاحتمالات، يرونه كحقل ملغوم بالخطر والعدوانية.
إن البعد الفلسفي للحروب يجعلنا نُعيد النظر في قيمة الحياة الإنسانية، هل يستحق أيُّ خلاف أن يُؤدِّي إلى تدمير أرواح لا تُعوَّض؟ في لحظات الصراع، يتجاهل البشر أن لكل إنسان قصة، لكل فرد عالمه الخاص الذي ينبض بالحياة، الحروب تسحق هذه العوالم دون اكتراث، وتترك وراءها فراغًا لا يمكن ملؤه.
ربما أعظم مأساةٍ للحروب هي أنها تُعلِّم البشر التكيُّف مع القسوة، يصبح الناس أكثر صلابة، ولكن هذه الصلابة ليست علامة على القوة، بل على فِقدان القدرة على الشعور، عندما تتحوَّل القلوب إلى حجارة، وعندما يصبح الألم رفيقًا يوميًّا، يفقد الإنسان جزءًا من قدرته على التعاطف، وما بعد الحرب ليس سلامًا، بل هو محاولة بطيئة وشاقة؛ لاستعادة ما يمكن استعادته من إنسانية مفقودة.
الحروب تزرع بذور الألم لعقود قادمة، قد يتوقَّف القتال، وقد تعود المدن إلى البناء، لكن ما ينكسر في النفس البشرية يحتاج إلى أجيال ليتعافى، وحتى حينها، تظل آثارها طيفًا يلوح في الأفق، يُذكِّرنا دائمًا بما يمكن أن يحدث عندما نسمح للكراهية والصراع بأن يحكما عالمنا.
ضوء
«لا تدفع قيمة الحروب في وقت الحرب، الفاتورة تأتي لاحقًا».
- بنجامين فرانكلين