عبدالعزيز صالح الصالح
البعض مِّنَّا ينظر إلى الثقَّة بالنَّفس نظرة استخفاف.. بل لأنَّها على حد البعض، فكرة غريبة عن النَّفس البشريَّة، ويعتبرونها دخيلة على الفكر فلم يتسنَّ للنفس الإنسانيَّة أن تستسيغها أو تهضمها.
ويعتقد الآخرون أن الثَّقة لم تكن في يوم من الأيَّام سوى مبدأ الضُّعَفَاء من البشر ولا يسير على سننها إلاَّ السَّذَّج البسطاء من النَّاس والبعض يحاولون أن يثقوا بسواهم ولكنهم يحجمون عن المجازفة بشتّى الطَّرق خوفاً أن تفشل ثقتهم - فالبعض يدين تارة بمبدأ الثَّقة وفي وقت آخر تراه يحجب ثقته عن النَّاس وينكفئ على نفسه فلا يسلِّم أمره لأحد، أو تجد إنساناً ثانياً يضع ثقته بالبعض ويحذر من الآخرين، أمَّا الثَّقة المطلقة العامَّة المستنيرة التي تنطلق من افئدتنا فتمتلى بها نفوسنا فتشع على البشر مِّنَّا فتنير نفوسهم لأن المرء مع الأسف الشديد قد أعتاد أن يهضم حق غيره من الضُّعَفَاء ويستثمر محبتهم ويستفيد من ثقتهم به، كما أنَّه اعتاد الكذب والخداع والمراوغة والذَّين يعتقدون أن البشر مجموعة من الأسود والفهود والثعابين والعقارب والتَّماسيح تتطاحن وتتعارك في سبيل المصلحة الخاصَّة، فإن أعدادهم كثيرة في المجتمع فإنَّ فكرة الإنسانيَّة المطلقة وما يتفرع عنها من أفكار نبيلة فهي أضغاث أحلام لا قيِّمة لها ولا يمكنَّ تحقيقها ويقول الشاعر الحكيم:
احذر عـدوَّك مرَّة
واحذر صديقك ألف مَرَّةً
فلربما انقلب الصَّديق
فكان أعلم بالمضرَّة
وقالوا:- (اتق شرَّ من احسنت إليه)
فكان المرء في الزَّمن القديم معذوراً ومضطراً لالتزامه الحذر من البعض ومضطراً للسير على سبيل الشك، فهل يا ترى نكون معذورين حالياً فقد سار العالم على قوانين وأنظمة عادلة؟ فالفكر البشري أخذ يتقدم ويتطور ويتخلص رويداً رويداً من بدائية الإنسان وعاداته التي توارثها عن الأجيال السَّابقة، ولهذا نرى أن مجال الثَّقة كمبدأ اجتماعيِّ قد تطور شيئاً فشيئاً في نفوس البشر وازداد طلابها وعشاقها في العالم المتحضر.
إن الثَّقة التي ينشدها المرء ويدين بها الفكر البشريِّ المتجدد هي الثَّقة العمياء التي لا تعرف الحدود فإذا وضعت ثقتك بصديق أو حبيب أو أخ فيجب عليك ألاَّ تنزعها لمجرد شك سطا على فكرك فيجب عليك أن تبقى واثقاً بالبعض ولو قادتك ثقتك تارة إلى الخسارة!!
فإذا كانت أبجديات الخسارة قد أفسدت عليك متعة الثَّقة فإن العمل بما يتطلبه ذلك أن يفقدك متعة الثَّقة الدائمة فالثقة التي ينشدها كل واحد مِّنَّا هي المبدأ الذي يعتق النفوس البشريَّة من كافة الصراعات والقلاقل والمصائب والمشاحنات وينقيها من أسس الشك والريبة وهي أمور واضحة المعالم من صدق وأمانة وشرف، فإذا اراد الفرد أن يكون كبيراً في نظر الآخرين دون حذر ولا تردد فالثَّقة عبارة عن حلقة كلما اتسعت دائرتها ضاقت دائرة الحذر والخوف فإن الثَّقة بالآخرين متعة وسعادة وسرور وبهجة واطمئنان، فإذا كان الحذر يقينا تارة من الوقوع في الشّرور والأخطار فإن الثَّقة تقتل كل شر وتحارب كل خطر يعترض كل طريق. والله الموفِّقُ والمعين.