عبدالوهاب الفايز
قد تكون هذه مفارقة غريبة، كيف يمكن لأمة منقسمة على أمور أساسية وجودية أن تقرر مصيرها ومصير العالم بعيدا عن الإجماع والوحدة؟
هذا الذي يجعل العالم يتخوف من مستقبل القوة الأمريكية وقدرتها على مواجهة التحديات الكبرى في عالمنا اليوم. فهذا الانشقاق الداخلي، هل ستكون له تبعات على المبادئ التقليدية في السياسة الخارجية التي تقرر المصالح العليا للدولة. ويبقى السؤال: لماذا العالم يهتم ويتابع الانتخابات الرئاسية الأمريكية دون غيرها؟
هذا الاهتمام يعود إلى عدد من الأسباب. أولها، أثر هذه الانتخابات على الشعب الأمريكي واستقراره، فأمريكا ما زالت الدولة والمجتمع الذين يقدمان الخير للإنسانية في مجالات الطب والعلوم والاقتصاد وكل ما يخدم الحياة. ثانيا، العالم يتابع الانتخابات نظراً لدور أمريكا المباشر وغير المباشر في الأحداث العالمية الساخنة، بالذات في منطقتنا في الشرق الأوسط.
ثالثاً، يهمنا أثر هذه الانتخابات على مستقبل الأمه الأمريكية في جانب مهم: كيف تتصرف أمة منقسمة ينمو فيها التطرف الديني، ويتوسع فيها الاستقطاب السياسي، وتكبر فيها الهوة بين الفقر والغنى، والاغلبيه من الشعب لا يثق بالنخبة السياسية! هذا مهم لاعتبار رئيسي وهو أن القوى العظمى - كما يقول المؤرخون - في مرحلة انحدارها تصبح قلقة وخطيرة وتفقد الحكمة السياسية. وأمريكا ما زالت القوة الأساسية في الإنفاق على التسلح، فلديها نصف إجمالي ميزانية الدفاع في العالم، وتنتشر قواتها في أكثر منه 700 قاعدة عسكرية حول العالم، وتنخرط بقوة في حرب باردة ضد الصين وروسيا وكل من يتحالف معهما، وتقول للحلفاء والأصدقاء: (أنتم معنا أو ضدنا!). هذا خطر رئيسي على الاستقرار العالمي.
وأثر هذا الانقسام وقف عنده بشكل لافت قبل ثلاثة سنوات، وبالتحديد بعد بداية رئاسة جون بايدن، فرانسيس فوكوياما صاحب نهاية التاريخ، فقد نشر في مجلة الإيكونوميست تحليلا مطولا للهروب الأمريكي من أفغانستان، ويرى ان التحدي الأكبر لمكانة أمريكا العالمية ليس خارجياً، بل هو محلي: المجتمع الأمريكي مستقطب بشدة، ويجد صعوبة في إيجاد إجماع على أي شيء تقريبًا.
وفي رأيه بدأ هذا الاستقطاب حول قضايا السياسة التقليدية مثل الضرائب والإجهاض، واستمر إلى صراع مرير حول الهوية الثقافية. يقول: «كان طلب الاعتراف من جانب الجماعات التي تشعر بأنها قد تم تهميشها من قبل النخب شيئًا حددته قبل 30 عامًا على أنه كعب أخيل للديمقراطية الحديثة عادة، يجب أن يكون التهديد الخارجي الكبير مثل جائحة عالمية هو المناسبة للمواطنين للالتفاف حول وضع خاص؛ أدت أزمة كوفيد -19 إلى تعميق الانقسامات الأمريكية، مع التباعد الاجتماعي، وارتداء الأقنعة، والآن يُنظر إلى التطعيمات ليس على أنها تدابير للصحة العامة، ولكن كرموز سياسية».
في عدد 5 يناير 2022، من مجلة ذا اتلانتك طرح الأكاديمي الأمريكي ستيفن ماركي هذا السوال: كيف انقلبت نخب الجامعات العريقة على الديمقراطية، وأشرف بعض من أفضل الناس تعليماً في البلاد على تدمير مؤسساتهم؟ وينقل عن الرئيس أبراهام لنكولن أنه تساءل في خطابه في جامعة الليسيوم، قائلا: «عند أي نقطة إذن يمكننا أن نتوقع اقتراب الخطر؟».»أجيب: إذا وصل إلينا الخطر، فلا بد أن ينبثق بيننا؛ ولا يمكن أن يأتي من الخارج. وإذا كان الدمار من نصيبنا، فلا بد أن نكون نحن من يُنشئه ويُنفذه. وباعتبارنا أمة من الأحرار، فلا بد أن نبقى احياء أو نموت منتحرين». وفي رأيه إن أمريكا تقترب من تحقيق هذه النبوءة الكارثية للرئيس لنكولن. وحسب رأيه، لم يكن الرئيس لنكولن ليتنبأ قط بأن دمار أمريكا سيأتي من أكثر شعبها امتيازًا، وإنما (سيكون انتحارًا من قبل النخبة!).
هذا الرأي حول انقسام المجتمع تردد صداه في حوارات أجرتها محطة PBS العامة مع أربعين وجها مألوفا من النخبه السياسية والإعلامية الأمريكية، من هؤلاء نيوت جينجريتش، عضو الكونجرس الجمهوري السابق، ورئيس سابق لمجلس النواب الأمريكي من عام 1995 إلى عام 1999 .
ومؤلف العديد من الكتب، بما في ذلك «فهم ترامب» و»المسيرة نحو الأغلبية: القصة الحقيقية للثورة الجمهورية»، هذا السياسي المخضرم توقع ان تكون (هذه الانتخابات هي الأهم منذ الحرب الاهلية عام 1860). لماذا؟ حسب رأيه، الحزب الديمقراطي أصبح خاضعًا لسيطرة الجناح الغربي في الحزب، بالإضافة إلى أن ترمب يقود (حركة سياسية) وليس برنامجا انتخابيا.
والأخطر، في رأيه، هو (وجود آلة سياسية فاسدة في جميع أنحاء البلاد تعتمد بشكل كبير على أموال دافعي الضرائب للبقاء، ثم هناك الرغبة العامة إلى خرق القانون بشكل روتيني، ونحن نرى ذلك باستمرار). وذكر أمرا مهما وهو: ان 80 بالمئة من الجمهوريين يعتقدون ان وزارة العدل فاسدة تماماً، ولا يوجد شيء اسمه سيادة القانون في البلاد حاليا. ويقول: أعتقد أنه إذا حصلنا على أربع سنوات أخرى (بعد فوز الديمقراطيين)، فإننا سنحصل على ملايين المهاجرين غير الشرعيين؛ ويعتقد أن التجربة الأمريكية سوف تتعرض لمتاعب هائلة.
ومؤشرات الانقسام نجدها في مكان آخر. 82 فائزا بجائزة نوبل من الولايات المتحدة في مجالات الفيزياء والكيمياء والاقتصاد والطب أعلنوا ترشح كامالا هاريس للرئاسة، محذرين من أن دونالد ترامب «سيعرض للخطر أي تقدم في مستويات معيشتنا» بالنظر إلى مقترحاته السابقة بتخفيضات هائلة في تمويل العلوم. وفي رسالة مفتوحة، نشرتها صحيفة نيويورك تايمز قالوا: «هذه هي الانتخابات الرئاسية الأكثر أهمية منذ وقت طويل، وربما على الإطلاق، لمستقبل العلوم والولايات المتحدة»
ومؤشرات الانقسام أيضا نجدها في تأييد أكثر من 100 مسؤول جمهوري سابق في مجال الأمن القومي والسياسة الخارجية لفوز كامالا هاريس للرئاسة. في رسالة مشتركة، وصفوا دونالد ترامب بأنه «غير لائق لخدمة» فترة ولاية أخرى في البيت الأبيض. وجاء في الرسالة: «نعتقد أن رئيس الولايات المتحدة يجب أن يكون قائدا مبدئيا وجديا وثابتا». وهذا انشقاق داخل الحزب الجمهوري.
ومؤشرات الانقسام كذلك نجدها صارخه بالجديد البارز وهو: حضور المال السياسي بقوة وبدون تردد، فالداعمون يتسابقون في ابراز حجم الدعم، والسياسيون لا يخجلون من التصريح بهذا. هذا انقلاب كبير على التقاليد والأعراف السياسية التي كانت سائدة في السابق. وتبرز بقوة الآن الأموال والجوائز التي يعلنها آلون ماسك، وغيره من كبار الأثرياء.
كذلك برز هذا الأمر واضحا في دخول اللوبي اليهودي الذي تقوده (ايباك) لشراء أصوات ومواقف السياسيين. قبل أشهر تداول الاعلام سخرية أحد النواب الأمريكيين عندما قال ان ايباك انفقت 100 مليون دولار لشراء الأصوات وحصلت على 15 مليار دولار مساعدات لإسرائيل. عائد رائع على الاستثمار، كما يقول!
وأشارت تقارير إعلامية قبل أسبوعين أن ايباك وبعد 60 عامًا من ممارسة الضغط القائم على القضايا، اختارت لأول مرة الإنفاق مباشرة على الحملات، أي سوف يطبق استراتيجية جديدة لاستخدام أمواله الضخمة للإطاحة بأعضاء الكونجرس التقدميين الذين انتقدوا تلقي إسرائيل مليارات الدولارات الأمريكية من التمويل العسكري رغم انتهاكها لحقوق الإنسان. اللعب الآن على المكشوف، مع الأسف، وهذا الواقع أوجد ما يعرف بـ(الباب الدوار) في ممارسة السياسة في واشنطن، فقد أصبح يستقطب نخبة سياسية جديدة ليس لها علاقة بشؤون الحكم والسياسة!
في نتائج لاستطاع أجراه، في الفترة من 10-16 يوليو 2023، مركز (بيو للأبحاث) وجد أن وجهات نظر الأمريكيين تجاه السياسة والمسؤولين المنتخبين أصبحت سلبية، فالأغلبية تعتقد أن العملية السياسية (تهيمن عليها مصالح خاصة)، وتغمرها أموال الحملات الانتخابية وتغرق في حرب حزبية، ويُنظر إلى المسؤولين المنتخبين على نطاق واسع على أنهم أنانيون وغير فاعلين.
وهكذا.. هذه أمريكا تنقسم على نفسها، والعالم يجتمع على الخوف من هذا الانقسام!