م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1- كثيرون يرون أن كاتب السيرة الذاتية حتى يكون أميناً مع قرائه فعليه أن يكتب على غلاف كتابه: «هذا الكتاب مقتبس من قصة حقيقية».. تماماً مثل الأفلام التي تجسد أحداثاً تاريخية.. وفي عالم الأدب لا بأس في ذلك.. فكلنا في حياتنا العامة حينما نحكي قصصنا ونأتي إلى الأجزاء التي نكون فيها مخطئين.. نعيد تشكيل القصة حتى نُظْهر أن سبب أخطائنا هو أننا نبلاء.. وأن طيبتنا هي سبب وقوعنا في تلك الأخطاء.. وهذا الذي نسميه تبريراً.. والمجتمع بكليته يتوقع وجود تلك الصفة كسمة شخصية إنسانية في كل فرد في المجتمع.
2- كتَّاب المذكرات هم بشر أولاً ولا يكتبون تقريراً موضوعياً عن حياتهم الشخصية، بل يكتبون سرداً مصوغاً بعناية.. فيه التغافل عن أحداث والحبكة المصنوعة لأحداث أخرى.. فالقصة التي يرويها الكاتب عن نفسه مقتبسة من قصة حقيقية.. وهو يمثل في جزء كبير منها شخصاً من نسج خياله.. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يدعيه الكاتب أنه لم يكذب في تلك السيرة لكنه لم يقل الحقيقة كلها.
3- يعزو علماء النفس سبب تدني مصداقية السير الذاتية إلى تلك الغريزة الدفاعية.. هذا إضافة إلى أن العقل لا يستدعي ملف الحدث في الذاكرة كاملاً بل يستدعي الحدث ذاته.. أما ما أحاط أو ارتبط به ولو عن بعد فيكون غائباً تماماً.. فالذاكرة ليست مقطع فيلم يمكنك أن تستعيده.. بل كل ما تستعيده لا يزيد على كونه مجرد خيال حدث وربما أيضاً في تلك نحن واهمون.. الأكيد أن ذاكرتنا لا تسجل حرفياً الواقع الذي حدث فعلاً.. لذلك هي تعيد بناء الحدث أو ما بقي منه في الذاكرة وأمكن تجميعه.. أي أنها إعادة صياغة قصصية.. أما القصة الحقيقية فنسبة عالية منها تكون قد تبخرت.
4- يتفق علماء النفس أيضاً على أن الذاكرة مؤرخ غير موثوق به.. لأنه يتمحور حول الذات.. فيعيد صياغة الحقائق بشكل يحفظ دور البطولة لصاحب الذاكرة.. لذلك وكما هو معتاد فكلنا نظن أنفسنا فوق العادة.. ومنها تنطلق فينا غريزة تعظيم الذات التي تبدأ منذ الطفولة لكنها تكبر مع البعض وتتطور.. والأكيد أن الجميع لا يخلون ولو من قدر يسير من ذلك الشعور مهما عظمت مكانة الإنسان أو بلغت رجاحة عقله.
5- بعد كل هذا: هل من العدل أن يُطْلب من كاتب السيرة الذاتية أن يقول الحقيقة كل الحقيقة وليس إلا الحقيقة؟ لا شك أن هذا تجاوز لاستطاعة القدرة الإنسانية.. فغريزته الإنسانية تأبى أن تعترف بالخطأ.. وذاكرته ليس فقط تخونه بل إنها أيضاً توهمه من خلال إعادة صياغة الأحداث وفق ما يرضيها.