د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في رأيي أن هناك فلاسفة يمكن الاستفادة من أطروحاتهم العلمية التطبيقية والأفكار الفلسفية النظرية، وبين من تقتصر فلسفته على أفكار خارجة عن المألوف، فمثلا ابن سيناء فيلسوف لكنه طبيب نفسي وجسدي، وأيضاً الخوارزمي الرياضي المشهور الذي فتحت فتوحاته العلمية آفاق الحضارة في الوقت الحالي وما سبقه، وربما ما يلحق من أزمان، لم يخلو من الفلسفة، وابن رشد الحفيد، وابن الخطيب والتبريزي، وابن العربي، وغيرهم، لكن البعض منهم لا يخلو من شطحات.
وفي العصر اليوناني القديم كان أرسطو وأفلاطون وانتيستوس وكذلك ديوجانس وغيرهم غارقين في فلسفات متباينه، بعضها مبنية على أحلام وردية جميلة صعبة التطبيق، كما هي حال أفلاطون والمدينة الفاضلة، وهي فكرة نبيلة اصطدمت ببعض الصفات السلوكية البشرية غير الحميدة.
في هذا المقال سوف نقف عند أفكار الفيلسوف التركي المولد 421 قبل الميلاد والمتوفي عام 323 قبل الميلاد، اليوناني المنشأ والثقافة ديوجانس الكلبي، وكان والده يعمل في الصرافة والعملة المالية، وربما أنه كان يغش فيها، فتم اكتشافه، فانتقل إلى أثينا، وهناك من يذكر ان ديوجانس كان يعمل مع والده في هذه المهنة، وفي اثينا كان يستمع إلى الفيلسوف اتيستوس، وينتقد أفلاطون، وأخذ ينهج نهجاً مستقلاً غير واقعي. وكان لديه عبد اسمه مايسن، فهرب منه، ثم سأل نفسه، اذا أمكن لمايسن يعيش دون يوجانس، فلما لا يمكن لديوجانس ان يعيش دون مايسن.
يرى أن الفضيلة مقدمة على العمل، وانه مستعد ان يعيش على التسول، بدلاً من العمل، لكن لو أخذ الناس برأيه فلن يجدوا من يتسول منه، والفضيلة جميلة في العمل غير ان عدم وجودها او بعضها في العمل لا يعني ترك العمل، لكن السعي على نشر الفضيلة فيه، بقدر الممكن مع استمراره هو الأنسب، والتمادي في ترك العنان للعقل وجعله يسرح بلا حدود فوق المنطق، فإن بعض استنتاجاته تحتاج إلى تمعن قبل الأخذ بها، ما عدا الأمور العلمية التطبيقية التي تحتاج أحيانا إلى خيال علمي.
يرى ديوجانس أن العالم في سلوكه وتصرفاته مرتبط بالأعراف والقيم ومقيد بها، وأن ذلك قيد لا حاجة للإنسان به، وأن عليه العودة إلى طبيعته، من ذلك تلك العادة السائدة في أثينا في ذلك الوقت، التي تعيب الأكل في غير المنزل، فتمرد على تلك العادة وبدأ يأكل في الأسواق وفي المحاضرة، وهو ينظر إليهم بسخرية، واشمأز المجتمع منه، لكنه لا يبالي بهم، وسار في دربه، ويبدو ان نظرته صحيحة، فالناس اليوم يأكلون في الأسواق والمحاضرات والسيارات والقطارات وغيرها، وأذكر في صغري أن الأكل في الطريق غير لائق في نجد.
وهذا الفيلسوف يرى أن السكن والنوم في المنزل عادة، ولهذا فهو ينام في الطرقات، ويعيش على التسول، ثم أصبح ينام في جرة بقرب معبد، وكان بيده قدح يشرب به الماء، فلما رأى صبيا يشرب الماء بيديه، كسر القدح، وقال لماذا أحمل شيئا لا حاجة لي به، وذات مرة ذهب إليه الإسكندر المقدوني ليزوره في جرته التي يسكنها، لكنه لم يبالي به، وأسمعه كلاماً قاسياً، فقال له الاسكندر لو لم أكن الاسكندر لكنت ديوجانس، فقال ديوجانس لو لم أكن ديوجانس لكنت ديوجانس، كلام رائع حقا يعكس إيمانه بما يرى.