سهام القحطاني
هل تتحقق عدالة التقييم للشخصيات الأدبية حسب نسبة الفرد إلى تاريخ مُزمّن، أو نسبة الفرد إلى شمولية التاريخ؟
وما حق الأواخر في إعادة مراجعة شهادات تقييم الأوائل لقيمة الشخصيات الأدبية؟
قد يرى البعض أن قياس قيمة الشخصية الأدبية لا يتم بالضرورة نسبة إلى الإضافة والتغير، فحيناً تغلب (هوامش تلك القيمة)على محتوى القيمة ذاته، و(المقاصد الخفية).
وعلى سبيل المثال: فما جعل المتنبي يتصدر عصر الازدهار الشعري العربي حتى اليوم هو ما يمتلكه من «كاريزما شعرية»، حتى أن بعض شعراء ونقاد عصره اتهموه «بالسطو على معانٍ شعرية لغيره»، لكن ظلت تلك «الكاريزما الشعرية» وسيلة دفاع عن «قيمته»، مع أنه لم يُقدم ثورة فكرية أو منهجاً فكرياً في الشعر العربي كما فعل «أبو العلاء المعري»، إضافة إلى الأثر النفسي الذي يحققه شعر المتنبي داخل المتلقي؛ أي «إشباع أنانية المتلقي ونرجسيته»؛ لذا ظل المتنبي حيّا على ألسنة الجمهور قبل النقاد حتى اليوم.
ومي زيادة نموذج ينتمي إلى «نسق القيمة السابقة».
فلماذا مي زيادة دون أديبات عصرها علت القمة رغم أنها» متوسطة القيمة»؟
وهي لمن قرأ أدبها بعيداً عن دائرة الضوء التي أحاطت بها وجهات الإسناد عبر عشاقها من الأدباء سيجد أنها «قليل من الإبداع الفكري».
أما على مستوى الأسلوبية فقد كانت «خير مقلّد لأدباء عصرها»، ولذا عندما نحلل أسلوب مي زيادة الأدبي لا نجده عاكساً لشخصيتها الإنسانية والفكريّة الحيوية، بل نموذج مصطنع كتمثال بجماليون ظلت تختبئ داخله حتى « تكون كما يريد الآخرون لا كما تريد هي»، ليتحطم ذلك التمثال نهاية المطاف في نهاية مأساوية.
استطاعت مي زيادة الاندماج السريع مع طبقات النخب في المجتمع المصري كمعلمة للغات الأجنبية، وكانت تلك النخب ترعى الكثير من مجالس الثقافة والفن، وهو ما مهد لها الطريق للتعرّف على أرباب الثقافة والأدب في المجتمع المصري مثل العقاد الذي أُغرم بها، والكثير من الأدباء الذين أحاطوا بها، وكانوا خير «مصادر دعم واسناد» لها على مستوى العلو الثقافي والأدبي، رغم موهبتها الأدبية الضيقة مقارنة بأدباء عصرها.
كان تمرد ميّ على الصورة النمطية للمرأة العربية في المجتمع العربي من أهم المؤثرات التي فتحت لها أبواب الشهرة والأدب والثقافة، وتأسيس صالونها الثقافي أسوة بأرباب الثقافة مثل «صالون العقاد الثقافي».
فهل تستحق مي زيادة هذه الشهرة الثقافية التي جعلتها من أدباء الصف الأول في مجتمع مثل المجتمع المصري الرائد في النهضة الأدبية الثقافية؟.
عندما نقرأ إنتاج مي زيادة (بعيون اليوم) سنرى أنها كانت «مقلدة لأسلوب أدباء عصرها، ولم تستطع أن تخلق لها أسلوباً يميّزها كشخصية أدبية خارج ظل الأدباء، وهذا الأمر يتضح لك جلياً في رسائلها المتبادلة مع أدباء عصرها، ولعل السبب في ذلك هي «إشكالية اللغة».
أن تتعلّم لغة شعب يعني أنك تُصبح قادراً على القراءة بهذه اللغة والكتابة بها، ولكن ليس الإبداع والإضافة «كمفهومي خلق» ؛ لأن المسألة هاهنا تعتمد على روح طريقة التفكير بتلك اللغة التي هي حصرياً على شعوبها الأصليين - وهنا أتحدث عن الإبداع وليس العلم - ، وهو ما يظهر لنا جلياً في ترجمة الأدب، وإشكالية أزمة «اللغة الحرفية وروح اللغة».
تعلّمت ميّ اللغة العربية، لكن إتقانها لها لم يمنحها القدرة على اكتساب روح تلك اللغة لتمكنها من خلق بصمة فكرية رغم سعة أفق ثقافتها القرائية، ولذا ظلت تتحرك في المنطقة الآمنة « الأسلوبية الشاعرية»، وهو المنهج الذي كان غالباً على أدباء ذلك العصر بفضل إحياء التراث الأسلوبي للعرب.
لم تسع مي لتكوين قضية فكرية تمثلها وتميّزها عن غيرها مثل طه حسين مثلاً؛ لأنها ارتبطت بخارطتها الأولية «أن تكون كما يُريد الآخرون لا كما تريد هي» .
حتى مشاركتها في تسويق الحركات النسوية والدفاع عنها، كانت مجبرة على ذلك لأمرين:
الأول: أن تمرد مي على الصورة النمطية للمرأة العربية جعلها «الوجه الإعلاني» للحركات التحررية النسائية النهضوية، وكان عليها الالتزام بتبني هذه القضية والكتابة فيها.
والآخر: أن هذه القضية أصبحت قضية رأي عام في ذلك الوقت وشاركت فيها النخب النسائية من كل الأطياف ولذا كان لازماً عليها المشاركة.
ولذا ظلت مي زيادة منذ قدومها إلى مصر وحتى وفاتها تتحرك في كل الاتجاهات بواسطة قوة الدفع لا الإرادة.
إن قياس قيمة مي زيادة بميزان عصرها لا يتساوى مع ميزان عصرنا، فلكل عصر مقاييس القيمة، وهذا لا يعني «إسقاط القيمة المُزمّنة» ولا يعني في ذات الوقت «فرض شموليتها التاريخية».