عبدالله العولقي
في تراثنا الأدبي، تعود ريادة المعاجم اللغوية إلى أحد عباقرة التاريخ البشري، الخليل بن أحمد الفراهيدي، صاحب الذكاء الصارخ والمتعدد المواهب، ومؤشرات هذه العبقرية تعود إلى عدة نواح، فهو مكتشف علم العروض الذي اهتدى إليه بفضل فطرته الموسيقية الشعرية، فاكتشف بحور وأوزان الشعر العربي لوحده ودون مساعدة من أحد، ولم يستطع أي عالم بعده أن يضيف لهذا العلم بحراً واحداً عدا بحر المتدارك على يد تلميذه الأخفش، وأعني هنا الأوزان الأساسية التي نظمت عليها العرب أشعارها منذ فجر التاريخ وحتى زمن الخليل.
عاش الخليل في الفترة التاريخية ( 100هـ - 170 هـ) ( 718م – 786م )، عاش زاهدًا تاركًا زينة الدنيا محبًا للعلم والمعرفة، وتذكر كتب التاريخ أنه لم يكن يهتم بمنظره الخارجي، فقد كان شعث الرأس شاحب اللون، قشف الهيئة، متمزق الثياب، متقطع القدمين، مغموراً في المجتمع، قال النَّضْر بن شُمَيْل : ما رأى الراؤون مثل الخليل ولا رأى الخليل مثل نفسه، فقد جسد الخليل بن أحمد شخصية فائقة الذكاء، متنوعة الاهتمامات وفي حقول متعددة من العلوم ؛ بعضها أصيل في العربية صوتاً وصرفاً ونحواً ودلالة ومعجمة وموسيقى، وبعضها في العلوم البحتة كالرياضيات، والتطبيقية كالكيمياء، وبعضها في الفقه أيضاً، فهو شخصية استثنائية ليس في التاريخ العربي فحسب وإنما في التاريخ الإنساني كله !!.
أهم ما في سيرة الخليل بن أحمد أنه أول من وضع معجماً لغوياً في التاريخ البشري، وهذه ريادة لغوية تحسب للعرب أمام الثقافات البشرية الأخرى، وقد رتب الخليل معجمه بطريقة مبتكرة وأعني حسب مخارج الأحرف الهجائية، فيرى الباحث محمد إسماعيل أن الخليل كانت لديه حساسية مفرطة تجاه ما يعرف في دراسات اللغة المعاصرة بعلم الأصوات، فالمعجم لا يبدأ بالترتيب الأبجدي المتعارف عليه، ولكنه يُفتتح بحرف العين على أساس أن ذلك الحرف يخرج من أعماق الحلق، لينتهي الكتاب بحرف الميم الذي يخرج من طرف الشفتين عند النطق، ويعقب ذلك حروف العلة: الواو، الألف، الياء والهمزة، ولعل اهتمام الرجل بالأصوات ومخارج الحروف، أو تلك الحساسية الموسيقية تجلت مرة أخرى في وضعه لقواعد علم العروض، أو ما يحب البعض وصفه بمبادئ موسيقى الشعر، ويحسب للخليل أيضاً أنه أول من ابتكر الفتحة والضمة والكسرة لضبط علامات الإعراب ونطق الكلمات في الوقت نفسه، فضلاً عن إسهاماته الكثيرة في النحو، لقد كان الخليل بن أحمد الفراهيدي بالفعل عبارة عن مؤسسة لغوية قائمة بذاتها.
بعد أكثر من ألف عام، تأتي فكرة تدشين المعاجم اللغوية الإنجليزية على يد البروفيسور الإنجليزي جيمس موراي، فقد صدر مؤخراً عن منشورات نادي الكتاب واحداً من أروع مؤلفات الكاتب سيمون ونشستر ترجمة الأستاذ محمود راضي بعنوان (الأستاذ والمجنون)، الذي يحكي القصة المثيرة التي كانت وراء مشروع إنشاء معجم أكسفورد الإنجليزي الذي بدأ عام 1857م، حكاية أكثر من رائعة حيث تتضمن معاني متداخلة من الإنسانية والوطنية والشغف والعبقرية والجنون والهوس لرجلين رائعين أثمر تعاونهما إلى مشروع معجم أكسفورد الإنجليزي، وتعد ترجمة الكتاب إضافة قيمة ورائعة للمكتبة العربية، ومن الجدير بالقول إن هذه القصة المثيرة قد تحولت سابقاً في عام 2019م إلى فيلم درامي من إخراج فرهاد سافينيا، وبطولة الفنان الشهير ميل جيبسون وشون بن وناتالي دورمر، وحقق الفيلم نجاحاً في صالات العرض العالمية خصوصاً لمحبي أفلام السيرة الذاتية.
تبدأ القصة حول السير الإنجليزي البروفيسور جيمس موراي أستاذ علوم اللغة في جامعة أكسفورد البريطانية، ورئيس تحرير مشروع قاموس أكسفورد الإنجليزي، ومعه مجموعة متميزة من أساطين وجهابذة اللغة الإنجليزية الذين أجمعوا فيما بينهم على ضرورة الاستعانة بمساعدة الشعب الإنجليزي من خلال التطوع القومي والشعبي، وتزويد المشروع والمعجم بالكلمات والمفردات الإنجليزية الأصلية ولا سيما تلك المنطوقة في الأرياف وأطراف المدن، واعتبروا ذلك مشروعاً وطنياً يجب استنهاض الأمة من أجل إتمامه، وبالفعل قام المتطوعون والمهتمون باللغة من الشعب الإنجليزي بإرسال المفردات اللغوية التي لديهم إلمام في استعمالاتها اليومية إلى المشروع حتى تكون ضمن مفردات القاموس، لكن العجيب أن المشاركة الأضخم والأبرز بل وحتى النوعية كانت من نصيب الجنرال والطبيب العسكري مينور الذي قدم وحده أكثر من عشرة آلاف تعريف في المعجم، فقد ظل هذا الطبيب العبقري ملتزماً بإرسال مساهماته من آلاف الكلمات اللغوية طيلة عشرين عاماً كاملة، هذا التفاعل الوطني والعلمي من قبل الدكتور مينور كان محط إعجاب وتقدير اللجنة القائمة على المشروع وعلى رأسهم بالطبع السير جيمس موراي.
كانت اللجنة معجبة جداً بمدى ثقافة وغزارة معلومات الدكتور مينور، وفي كل عام كانت اللجنة في جامعة أكسفورد ترسل دعوة خاصة لمينور من أجل تكريمه نظير تعاونه المثمر ومجهوداته القيمة لكن الجنرال الطبيب كان يعتذر عن تلبية الدعوة برسائل مقتضبة وفيها شيء من الغموض !!، وفي النهاية وبعد أن تم المشروع اللغوي بصورة نهائية أصر البروفيسور موراي على حضور الجنرال الدكتور مينور إلى مقر الجامعة وإقامة حفل تكريم يليق بهذه القامة الثقافية والأدبية، فاستقل البروفيسور طائرته وسافر من أجل مقابلة الجنرال شخصياً واللقاء به، فقد كان الجنرال الطبيب يقطن في منطقة نائية وبعيدة عن مدينة أكسفورد، وعندما وصل البروفيسور موراي إلى تلك البلدة، بحث يسأل عن عنوان الدكتور مينور، وعندما وصل إلى مكان إقامته، وجد بيتاً كبيراً عتيقاً لا يوجد ما يدل على هويته، ولكن يبدو أنه مكان حكومي رسمي من خلال الواجهة، وعندما دخل البروفيسور المبنى ذهل وبدت على محياه علامات الاستغراب والدهشة بعد أن تيقن أنه في مستشفى للأمراض العقلية، وبعد بحث واستفسار عن الجنرال تبين له أنه يتعالج في المستشفى منذ أكثر من عشرين عاماً ولا يمكن رؤيته أو اللقاء به نظراً لتدهور حالته الصحية، بالإضافة إلى أنه سجين عسكري يقضي مدة العقوبة المقررة ضده، ذهل البروفيسور من مآل الجنرال الطبيب، ولكنه قرر في النهاية مساعدته وتقديم العون له، فأقام حملة شعبية واسعة من الاتصالات الرسمية من أجل الإفراج عن هذا الرجل العظيم.
وبعد جهود مضنية وجبارة تمكن البروفيسور موراي من إقناع المسؤولين في الحكومة البريطانية بالإفراج عن الدكتور مينور وإخراجه من السجن ومستشفى الأمراض العقلية مقابل جهوده الوطنية ومساهمته الجبارة في إنشاء معجم أكسفورد اللغوي، وهكذا تم تكريم الدكتور مينور ومنحه وضعه الثقافي والمجتمعي اللائق به، وتعتبر هذه القصة المثيرة ذات البعد الإنساني والثقافي هي التي ألهمت سيمون ونشستر في نشر مؤلفه الفريد (الأستاذ والمجنون) الذي حقق نجاحاً باهراً في المكتبات العالمية بالإضافة إلى تحويله إلى فيلم عالمي ناجح.
وفي الختام.. الثقافة العربية سبقت الثقافة الغربية في إنتاج المعجم اللغوي بأكثر من ألف عام، وبالتالي فإن أسوأ ما أفرزه بعض المفكرين العرب الذين عقدوا المقارنة بين الثقافتين هي تلك الانهزامية الثقافية للعقل العربي أمام العقل الأوروبي.