حامد أحمد الشريف
وأنا أطالع هذه المجموعة لأول مرة كان أكثر ما أخشاه هو خدش تجربة الكاتبة القصصية كونها التجربة الأولى، ومعلوم أن التجارب الإبداعية مهما كانت قيمتها وقوتها، قد تمر بصعوبات ومعوقات في بدايتها، وقد لا ينجو من هذه المطبات كثير من المتقنين إن لم يوفقوا في قراراتهم، وأيضًا إن لم يكونوا مؤمنين بموهبتهم، وقبل كل ذلك إن لم يكونوا واثقين من أنفسهم، ويعلمون جيدًا تفاصيل موهبتهم الإبداعية وكثير من أسرارها، وهذه الاستدراكات كما يظهر اشتراطات يصعب اجتماعها في أي مبدع في بداياته كونها تتشكل لاحقًا بالممارسة وتجربة الخطأ والصواب، والاستماع الجيد للنقد وحسن التعامل معه والقدرة على ممارسة الانتقائية في تقبل النصيحة أو تجاهلها أو الأخذ منها بقدر، والأهم من ذلك كله أنهم قد ينجون حتى وإن لم يتصفوا بهذه الصفات المعززة للإبداع؛ إن لم يصطدموا بمن يحبطهم ويدفن موهبتهم مبكرًا وهنا يكمن الخطر الحقيقي الذى قد يواجه هؤلاء.
* خشيت كل ذلك بسبب معرفتي بقيمة فكري وقلمي وتجربتي الكتابية المتواضعة لدى صاحبة هذه المجموعة، وقد صرحت بذلك في إحدى الأمسيات الثقافية التي جمعتنا، وتحدثت عن إيمانها بقيمة قلمي والرسائل التي يبثها في أطروحاته المتعددة، وهو ما يجعلني أداة هدم أو بناء، بعيدًا عن القيمة الحقيقية للمجموعة القصصية التي نحن بصددها أو قيمة قلمي، ولقد أثقل عليَّ كثيرًا أن أوضع في هذا الموضع، خشيت أن أجد نفسي أطالع قصصًا لا أحب قراءتها إذ لم تكن بالصورة التي أنشدها وأتمناها، والتي بدونها لا يمكنني تسطير حرف واحد، فالنقد والمراجعات الأدبية والقراءة التشريحية، حتى وإن كانت انطباعية أو مقالية، أمانة في أعناقنا لا ينبغي عرضها على محكات العلاقات الإنسانية والرغبات الوجدانية، بل ينبغي أن تؤطر بالعقل الذي يخلصها من أي تنازلات فنية وأدبية، قد تفقد الناقد قيمته بالمطلق، بل وتجعله أضحوكة عندما لا يجد من يقتفي أثره، ويقرأ النص الذي يحكي ما كان يتغنى به، وهو ما لا يمكن أن أقع فيه كنهج أتبعه لقلمي، مما وضعني في حرج كبير مع عدد من الأصدقاء والمحبين، وكنت أكثر ما أستطيعه التوقف والصمت إن لم يكن قولي يرضي من يود سماعه، خاصة أن الأقوال النقدية وإن ارتكزت على العلم والمعرفة والخبرة والتمرس إلا أنها لا تخلو من تأثيرات فكرية وفلسفية ونوازع نفسية تخص الناقد نفسه تجعل حديثه يقبل كل الاحتمالات، وبالتالي فالنصوص الأدبية ليست مطلقة القيمة والدلالات، والاختلاف حولها أمر صحي ويتكرر كثيرًا، بشرط أن لا يتناقض الناقد مع نفسه فتكون أدواته هي نفسها مع كل النصوص ونتيجتها واحدة في مراجعاته المختلفة.
* كان لزامًا عليَّ التوطئة لما سيأتي لاحقًا، فهذه المقالات الأدبية تثقيفية بالدرجة الأولى، ونحتاج مثل هذه الوقفات حتى نعرف التفاصيل الدقيقة التي تقودنا للكتابة الإبداعية وتخلق قيمة معينة لأقلامنا، والشاهد هنا أنني اضطررت لإكمال المجموعة رغم البداية المتعثرة ووقوعي على نصوص لم ترقَ لذائقتي القرائية؛ لإيماني بأن الحكم النهائي لا يصدر إلا في نهاية الجلسة القرائية، مهما كانت البدايات غير جيدة وتشير إلى حسم المسألة، ولقد حدث وقتها ما كنت أتمناه عندما وجدت نصًا ينفض عنه بعض السلبيات التي استوقفتني في النصين الأول والثاني، وشعرت أن السرد بدأ ينتظم بشكل جيد، وغابت كثير من السلبيات التي استوقفتني وآلمتني، فكان أن ابتسمت وواصلت القراءة لتستولي عليَّ النصوص الثلاثة الأخيرة وتسمح لمداد قلمي بالتدفق بداية من نص «زواج في زمن كرونا»، وبعدها نص «ابنة المدينة» وأخيرًا «وسواس اختياري»، وجدت في هذه النصوص الثلاثة بغيتي من الجمال السردي والإبداع القصصي الذي يجعل الحكاية مجرد فكرة بنيوية يقوم عليها السرد وليس لها من قيمة أكبر من ذلك، وهو ما جعلني أخصص هذه المساحة المقالية للحديث عن هذه القصص الثلاث التي اعتبرها الانطلاقة الحقيقية للكاتبة وعليها مراجعة القصص التي دونتها في بداية المجموعة وإعادة كتابتها بالمنهجية الصحيحة لكتابة القصة القصيرة الإبداعية أو استطلاع الآراء حولها والتأكد من صواب نظرتي النقدية أو بؤسها.
وقبل الشروع في الحديث عن هذه القصص لعلي أهمس في أذن كل من يريد نشر إبداعاته الكتابية بأن بداية ونهاية أي كتاب يشكلان الأهمية القصوى لأي كاتب فلا ينبغي إهمالهما، وعليه - إن أراد لكتابه النجاح - أن يحسن استقبال ووفادة القارئ ويجزل له العطاء الإبداعي في أول صفحاته حتى يضمن بقاءه في معية الكتاب، ولا تكون البداية هي النهاية لعلاقة القارئ بالكتاب والكاتب نفسه، لذلك درج على تسمية البداية الإبداعية بالمستحوذة كونها تستحوذ على القارئ وتدفعه لإكمال الكتاب حتى نهايته، حتى وإن كان المتن متأرجحًا بين القوة والضعف، لتأتي النهاية وتصبح الطعم الباقي في ذهن المتلقي الذي يغلف كل رأي يطرحه حول الكتاب وكاتبه وبالتالي يكون لها مفعول السحر في الاتصال المستمر مع المبدع وتتبع قلمه وعدم الانقطاع عنه وكذلك التواصل مع فلسفة النص وأفكاره ومستهدفاته القيمية والفهمية، بينما الإخفاق في وضع النهاية الإبداعية سيفسد كل شيء مهما كان المتن أو البداية جميلة، وهو ما وقعت عليه في هذه المجموعة التي كادت بدايتها تقضي عليها، ولو أنني لم أحسن الظن وأعض على نواجذي محاولًا إكمال ما بدأته، لربما كانت النتيجة مختلفة تمامًا.
*وبالعودة للنصوص التي استمطرت قلمي، نجد أن النص الذي اكتملت حلقاته وأصبح يستحق الحديث عنه هو «زواج في زمن كورونا» وكانت حكايته وفكرته الأساسية قائمة على رجل وفتاة تزوجا في التوقيت الخطأ، حيث كان لزامًا عليهما أن ينتقلا من حياة العزوبية والحرية المطلقة إلى الارتباط القسري وغياب الحرية بالمطلق، وبشكل صادم ليس فيه أي من الحياة السابقة وانعكاس هذا الاجتماع في التوقيت الخطأ على الطرفين، فنجد أن الكاتبة استطاعت نقل هذه الحكاية المتداولة وإلباسها ثوب السرد القصصي الإبداعي المشوق، وأجادت في وصف الإشكالية وأخدتنا معها في تنامي الصراع بطريقة جميلة صاحبها الحوار الداخلي «المونولوج»، واستلم دفة الحكي ضمير المتكلم والراوي العليم وأجادا النهوض بدوريهما باقتدار، ولم يخلُ النص من الإثارة والتشويق الذين ارتبطا بالإظهار والإخفاء بشكل مقنن ومدروس، والجميل أيضًا أن الصراع لم يكن محوريًا فقط يرتبط بمشكلة بعد الزوجة عن زوجها وبرودة علاقتهما قبل التقائهما في نهاية المطاف وذوبان الجليد بينهما، بل كانت هناك صراعات فرعية مهمة جدًا، شكلت جزءًا لا يتجزأ من قيمة هذا العمل السردي والرسالة التي يحملها، كتردد الفتاة بين الاستعانة بوالدتها أو الانكفاء على نفسها وممارسة نفس الدور الذي ما فتئت والدتها تمارسه طوال حياتها الزوجية؛ وهي تدفن كل خلافاتها الزوجية داخل المنزل وتترك للأيام والليالي والصدف المواتية حلها.
وكان النص قد تحدث عن خطأ الوالدة وإسهامها في وقوع هذه الإشكالية بسبب أنها - رغم خبراته الحياتية الكبيرة- إلا أن نصائحها لابنتها كانت ساذجة جدًا، بخلاف تأثير «الأسر الكوروني» إن صحت التسمية على الانضباط الانفعالي لدى الأشخاص ودوره المحوري الذي فاقم المشكلات وعطل حلها كثيرًا، ولعل الجميل في النص أنه لم يطرح المشكلة فقط بل تطرق لبعض الحلول بطريقة غير مباشرة، كإيحائه أن التشاركية داخل الأسرة قد تكون هي الحل أو أنها تلعب دورًا كبيرًا في تذويب المشكلات والقضاء عليها، ولعل الجميل في النص إتيانه على موقف أظهر الخطورة التي قد يتعرض لها الطرفان عند ممارستهما لهذه التشاركية في اتخاذ القرارات وتنفيذها، كان ذلك بالطبع من خلال التصرف الساذج الذي قام به الزوج عندما اصطحب زوجته إلى مكان خطير جدًا ما كان لها أن تذهب إليه لولا الأزمة التي كانوا يعيشونها.
ولعل الجميل في هذا النص الإبداعي احتواؤه على كثير من الرسائل المهمة والمعاني العميقة المضمرة ومنها على سبيل المثال ذكره بعض العيوب السلوكية التي رغم وقوفنا عليها في الآخرين إلا أنها ليست مبررًا للابتعاد عنهم بل ينبغي تجاوزها وغض الطرف عنها إذ إنها غالبًا ما تكون مجرد قشرة سطحية تخفي معدنًا نفيسًا ينبغي التنبه له، أظهر النص كل هذه المعاني العظيمة من خلال سلوك الزوج السيئ، وإخفاقه في التعاطي مع المشكلات التي حدثت مع زوجته، باختياره الهروب وعدم المواجهة وترك المشكلات تكبر وتتراكم من دون حل، في وقت لم يكن يقصد كل ذلك وإنما هي عادات طفولية جبل عليها ولم يدرك تأثيرها على حياته الزوجية، وكان يحتاج لصبر الطرف الآخر ومحاولة علاج هذه الإشكالية بالتدريج، وقد ظهر أن مواقف الحياة استطاعت بالفعل أخذهما لبر الأمان ونجاتهما من تخبطهما من دون إدراكهما للمشكلة أو طريقة حلها،،، في النهاية القصة كانت رائعة وتعاطت مع الضرر الكبير الذي أتت به جائحة كورونا وتأثيراتها النفسية الممتدة التي لم تكن نتائجها جيدة مثل ما كانت القصة، بل حدث أن قضت هذه الجائحة على كثير من العائلات الحديثة التي لم تتبلور العلاقة الإنسانية بين طرفيها بعد.
* في قصة ابنة المدينة استلم زمام الحكي الراوي العليم وكان خيارًا موفقًا من المؤلف فالقصة تحمل أبعادًا مجتمعية وليست شخصية رغم حضور الأشخاص وتأثيرهم المباشر وتسببهم في تفاقمها ووقوفهم حائلًا أمام علاجها وهي تطلعنا على الخلل الكبير الذي ينجم عن الزواج بين المجتمعات المختلفة في العادات والطباع، وتأثير المكان على الحياة الإنسانية عامة، وتنميط سلوكيات البشر ودفعها غالبًا للحدية في كل الاتجاهات وتسبب ذلك في خلق إشكاليات قد تقوض العائلة وتفكك أواصرها رغم غياب الأسباب الجوهرية الداعية لذلك.
* إن جمالية هذا النص وقوته تكمن في قدرته على قول كل ذلك، ولكن في مستويات قرائية متعددة، بمعنى أنه لم يصرح بمعانيه ومغازيه بشكل مباشر في مستو ى القراءة السطحي، وإنما تركها مضمرة داخل النص، ووضع بعض السيمائيات الدالة عليها مما رفع من مستوى ذكاء النص ونخبوية تلقيه والتزامه بضوابط القصة الإبداعية، في وقت لم يقلل ذلك من قيمة النص الظاهرة، ولم يفقده البساطة والسهولة التي يتميز بها، وبالتالي حافظ على قراءته من كافة المستويات، وتلقي معانيه الظاهرة بطريقة جيدة، وذلك يعني نجاحه في إثراء النص دون الذهاب باتجاه التلغيز المبالغ فيه، أي إنه كان بين ذلك قواما، وهذه هي الصورة المثالية التي نبحث عنها في النصوص القصصية الإبداعية التي توازن بين كافة العناصر، فيكون الاختزال والتكثيف مدروسًا، يحافظ على رشاقة النص دون الإخلال بمستهدفاته الفهمية، وبالمحافظة على الصورة الشكلية للنص التي يسوق من خلالها كقصة قصيرة مكتملة الأركان، وقد نجح النص في ذلك أيما نجاح رغم كتابته الكلاسيكية الطويلة نسبيًا - 13 صفحة - لكنها كانت الوعاء الكتابي المناسب فكما هو معلوم أن القياس ليس بعدد الصفحات أو بعدد الكلمات وإنما بحاجة السرد لكل كلمة مكتوبة وهو ما تحقق بالفعل في هذا النص الجميل.
* وفي أخر قصص هذه المجموعة تودعنا قصة لا تقل جمالًا وقيمة عن القصتين اللتين نوهنا عنهما، وأعني بذلك قصة (وسواس اختياري) التي تعد هي الأخرى، أيضًا قصة كلاسيكية تقع في خمس عشرة صفحة بنفس المواصفات التي ذكرناها في النص السابق حيث الرشاقة الكتابية وغياب الترهل نتيجة التوظيف الأمثل للمفردات بما يوصل المعاني المستهدفة فقط من دون إقتار أو إكثار، وكانت هذه المساحة السردية احتياجًا حقيقيًا للنص، لاحتواء معانيه الظاهرة والمضمرة وإيصال رسالته القيمية، فهو يتحدث عن التشدد والتنطع الذي رافق التحولات الاجتماعية والدينية، وهيمن على الساحة السعودية ما بعد حادثة جهيمان الشهيرة إلى فترة قريبة، وأجاد النص في وصف هذه الحالة من التزمت وعدم القبول بالآخر، والسعي للتغيير بوسائل غير مناسبة لم يأتِ بها الشارع أو الدين الحنيف، في وقت حاول النص تعميق الإحساس بالأبعاد النفسية لأبطاله وجعله - أي النص- يدور في فلك هذا البعد النفسي المهم؛ بحيث لا تكون المناقشة سطحية تكرس استهجان التدين المبالغ فيه، وكذلك الفهم الخاطئ لمبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أو لنقل التطبيق الخاطئ للمبادئ الإسلامية العظيمة، فالنص في مستوياته القرائية المتعددة أظهر الفائدة المرجوة من هذه الممارسة الدينية المقننة وعدم وضعها في يد من لا يحسنون التعامل معها، أو لنقل عدم تركها للأهواء النفسية والتقلبات الفكرية من أفراد بسطاء قد يجنحون بها نحو الهاوية، ظهر ذلك واضحًا جليًا في النص الذي أوقفنا على بعض التجاوزات الناتجة عن خلل التطبيق للأحكام الشرعية، كالخلوة بين الرجل والمرأة بدون محرم، في وقت لم يقر وسيلة فرض هذه الأحكام بطريقة فردية، ووصفها بالوسواس الذي يعد أحد الأمراض النفسية الشائعة وغالبًا ما يرتبط بالحدية في التعاطي مع قوانين الحياة ومستلزماتها، من ذلك بالتأكيد التشدد الديني الذي لازالت البشرية تعاني منه مع كافة الأديان والنحل من دون استثناء، هذا الوسواس الذي يوصف غالبًا بالقهري في أحد فروعه، بينما كانت أصالة النص إتيانه به في صورة مختلفة، أو لنقل بمسمى ووصف مختلف إذ أطلق عليه «الوسواس الاختياري» وفي ذلك إشارة إلى أن هؤلاء المصابين بالاضطرابات النفسية بدرجاتها المختلفة، يختارون غالبًا الإصابة بهذا المرض النفسي من تلقاء أنفسهم نتيجة خلل فكري يعانون منه يوصلهم للاختلال النفسي الكبير، ويعني ذلك أن شفاءَهم ميسور، وربمالا يحتاجون لمراجعة طبيب، فقط عليهم مراجعة قناعاتهم المتفلتة من القوانين والنظم الحياتية، المؤطرة بالفهم الصحيح للنصوص الدينية.
الجميل في هذا النص المسرود عن طريق الراوي العليم، أنه لم يتحيز للفكرة الأساسية التي بني عليها، وإنما ترك للسرد أن يفصح عن أبعاد المشكلة، ويمنح الجميع الفرصة لقول ما يشاؤون، وأظهر أن الاضطرابات النفسية تشمل الجميع، وأن الخطأ والصواب أمر نسبي، فليس هناك شر مطلق أو خيرية مطلقة، وهذه تعد مستويات فهمية متعددة خلقت قيمة كبيرة للنص، وأبعادًا قرائية يشترطها النص الإبداعي، وقد نجحت المؤلفة في ذلك، واستطاعت زراعة سيمائيات حركية تعتمد على إيصال الأفكار المستهدفة من خلال الحركة والمشاهد المتعددة، بمعنى أنها لم تستخدم المفردات الدلالية أو السرد الوصفي الدلالي فقط، وإنما أظهرت مستوياته القرائية من خلال دلالات المواقف الحركية كقولها: «خرج أحد المراجعين من غرفة الدكتور صالح، وقبل أن تنادي الممرضة المراجعَ التالي؛ دلف جابر إلى الغرفة مسرعًا وأغلق الباب وراءه» وكما يلاحظ هنا أن إيصال المعاني اعتمد على وصف حركي ولم يكن لغويًا، وهذا تميز في الكتابة الإبداعية الدلالية، حيث يتكفل المشهد الموصوف بإيصال المعاني المستهدفة، فهنا يظهر الاندفاع الكبير الذي كان عليه جابر وهو يحاول تطبيق قناعاته الدينية بطريقة غير منضبطة، وظهر أيضًا أنه يعاني من خلل ما، فلا يمكن النصح بهذه الطريقة الفوضوية ما يعني أن النص استطاع إيصال معانيه بطرق مختلفة، في مقدمتها وصف الحركة داخل المشاهد المدونة وقد نجح في ذلك بشكل كبير.
أعجبني في هذا النص أيضًا توظيفُ الحوارات بطريقة بديعة وكذلك الحوار الداخلي «المونولوج» واستخدامه أيضًا للمعاني المستهدفة بطريقة غير مباشرة، فكانت أيضًا ضمن السيمائيات الجميلة التي حققت المستويات الفهمية المتعددة، وزادت من ثراء النص ولعل الجميل فيها اختيارها للمواقع بدقة متناهية واكتفائه بإيصال المعاني والتوقف بعد ذلك.
في النهاية علينا العودة لما بدأنا به هذه المراجعة للمجموعة القصصية «خدش الأرواح» لنعاود القول أن القصة القصيرة فن بديع، ليس من السهولة بمكان اقتحام حصونه وخوض غماره، ولا يعني امتلاكنا لحكاية ما أو فكرة محورية أو أفكار بسيطة متنوعة، تنتظم في فكرة أساسية كبيرة، أننا قادرون على سردها وإدراجها ضمن أدب القصة القصيرة، طالما أننا لم نعرف دهاليز هذا الجنس الأدبي المهم الأكثر صعوبة من غيره، وكان في هذا التباين بين تلكم الحكايات المتنوعة التي استطاع السارد كتابتها بطريقة بديعة، وبين حكايات لم ترقَ لأن تكون قصصًا قصيرة إبداعية، وغابت قيمتها السردية على نحو ما، نتيجة خلل في طريقة سردها وعدم الاشتغال الفني عليها، وربما الاستعجال في نشرها، ولعل الجميل أن ذلك حدث رغم أن النصوص كلها بنيت على حكايات محورية يمكن استخدامها لكتابة القصة بطريقة إبداعية، وكان بالإمكان تدارك عثراتها، وكأنها كتبت على هذا النحو لتختبر قدرتنا على الفرز والتصنيف والاحتكام للقواعد والضوابط القصصية، بعيدًا عن كاتب النص أو الكتاب نفسه، ما يعني أن هذه المجموعة كانت تعليمية بالدرجة الأولى أوصلتنا لاختبار قدرتنا على تناول مثل هذه المحاولات الكتابية، وتبين قيمتها الحقيقية كجنس أدبي، وهي الصورة المثالية التي ينبغي أن نكون عليها كمتلقين للتفريق بين الغث والسمين وإعطاء كل ذي حق حقه، فالكاتب كما هو معلوم لا يوفق دائمًا في كل نصوصه الإبداعية، مهما كانت مكانته السردية وخبراته الكتابية، وتعظم هذه الإشكالية في التجارب الأولى التي علينا كمتلقين ونقاد - أكاديميين أو انطباعيين - احتواؤها والسعي أن نكون قوامين حتى لا نخدش إبداعاتهم ونئدها في مهدها.